من نوع آخر تمثلت، في مختلف العواصم الغربية، في التنديد بالدور الصيني في إدارة أزمة كورونا. و كان الرئيس الأمريكي دونالد ترامب قد فتح هذه الحملة بالإشارة إلى دور «الفيروس الصيني» في تفشي الأزمة الصحية في العالم متهما بكين باستغلال الوضع لصالحها و قد تمكنت من السيطرة على الفيروس. ولو أن دونالد ترامب استعمل هذا الهجوم في إطار حملته الإنتخابية في محاولة - يائسة؟ - للتملص من عواقب قراراته المستهترة بالوضع الصحي و توجيه الرأي العام بخطابات هستيرية نجح من خلالها سابقا في الدخول إلى البيت الأبيض.
وقال الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون لصحيفة «فاينانشل تايمز» :»الأمر واضح أن هنالك أشياء حصلت لا نعرفها وعلى الصين أن تصرح بها.» وانتشرت منذ عدة أيام حملة صحافية في مختلف وسائل الإعلام في فرنسا وبريطانيا أساسا متهمة الصين بإخفاء المعلومات الأساسية لتفشي الوباء انطلاقا من مدينة يوهان الصينية في الأيام الأولى من ظهور الفيروس وتقصيرها في التعاون مع البلدان الأخرى. وذهبت بعض وسائل الإعلام إلى نشر مواقف واتهامات صريحة تشير إلى مسؤولية الصين في نشر الفيروس لصالحها بسبب أنها، وفي إطار نظام العولمة، تكاد تحتكر صنع المواد الأساسية الصحية (أقنعة وآلات تنفس خارجي، و مواد صحية و أدوية) لمقاومة فيروس كورونا و تعمل على السيطرة على الاقتصاد العالمي.
إشترك في النسخة الرقمية للمغرب
وذهب أحد العلماء الفرنسيين، لوك مونتانيه، الحائز على جائزة نوبل من أجل اكتشافه لفيروس الأيدز، إلى اختلاق فكرة أن الفيروس تم «صنعه في مخبر في يوهان « و أنه تفشى خارج المخبر بصورة غير مقصودة، وذلك بدون أن يقدم أي برهان على ادعائه. وتفاقمت هستيرية الاتهامات الرسمية وغير الرسمية مع رجوع الاقتصاد الصيني إلى سالف نشاطه في حين لا تزال الدول الأوروبية الكبرى (ألمانيا و فرنسا و إيطاليا و اسبانيا) و الولايات المتحدة وبريطانيا العظمى تتخبط في جائحة كورونا و تعيش حالة حظر صحي أغلقت جل المؤسسات الاقتصادية والإدارية المنتجة.
ما هي حقيقة الاتهامات ضد الصين؟
لم تتأخر السلطات الصينية على الرد على ادعاء الرئيس الأمريكي واتهمت بدورها الجيش الأمريكي بزرع الفيروس في الصين، في محاولة غير ناجحة في إقناع الرأي العام العالمي. لكن رصد الأخبار والوقائع حول تفشي الفيروس من قبل الباحثين والمختصين في ميدان البحوث يشير إلى عكس ما جاء في الحملة الإعلامية المتواصلة ضد الصين في جل العواصم الغربية.
من المتأكد أن التقصير في بداية ظهور الفيروس كان سببه عدم قدرة السياسيين و الأطباء والباحثين في ميدان الصحة في الصين وخارجها على فهم واقع الفيروس الجديد. لكن البحوث المعتمدة في فرنسا – والتي تحظى بمصداقية عالية – أشارت إلى أن الحكومة الصينية التزمت بإخبار كل من منظمة الصحة العالمية والدول الغربية بواقع انتشار الفيروس في بداية الأزمة. بل أنها واصلت إرسال التقارير العلمية و نتائج البحوث المخبرية إلى مخابر البحوث في العالم و زودت الباحثين غير الصينيين بكل المعلومات المتاحة في الإبان. وظهر خبراء وباحثون على شاشات التلفزيون منذ بداية الأزمة في الصين يحللون اعتمادا على التقارير الرسمية القادمة من الصين.
وقائع الجائحة الحقيقية
و أشارت الباحثة و الفيلسوفة الفرنسية سنيا برسلير في بحث نشره معهد العلاقات الدولية والإستراتيجية في نشرته لشهر أفريل أن الحملة ضد الصين انطلقت بصورة منظمة في بداية شهر أفريل باتهام بكين بعدم إطلاق إنذار الخطر في بداية الأزمة. وعددت المراحل المسجلة في اكتشاف ومقاومة الوباء. من ذلك أن أول حالة اكتشفت يوم 31 ديسمبر 2019 عند مريض بدأت أعراض المرض عنده قبل ثلاثة أسابيع. و قامت السلطات المحلية بمدينة «يوهان» مباشرة بغلق السوق المركزية يوم 1 جانفي 2020 و عزل 700 شخصا في المدينة من بينهم 400 عامل في ميدان الصحة. و قامت السلطات بعمليات فحص تأكدت من خلالها بإصابة 41 شخصا و أعلنت الصين يوم 8 جانفي على ظهور فيروس جديد أطلق عليه اسم «2019 – ن كوف» ثم تحول الإسم في ما بعد إلى «كوفيد -19». و سجلت أول حالة وفاة يوم 9 جانفي.
يوم 11 جانفي ، أي أسابيع قبل انتشار الفيروس في أوروبا، قامت السلطات الصحية الصينية بتقديم نشرة يومية للشعب الصيني و للعالم بتقدم انتشار الفيروس و مدت الهيئة المركزية للصحة يوم 19 جانفي منظمة الصحة العالمية بالتسلسل الجيني للفيروس الجديد وأكدت في اليوم الموالي انتشار الفيروس من شخص إلى شخص. وأعلنت حالة الخطر في كل ولايات الصين وقامت بغلق كل المناطق المصابة و كل المؤسسات التربوية و الصناعية والرياضية و الثقافية. وفرضت في نفس الأسبوع إجراءات الوقاية التي لا تزال تتبعها البلدان الغربية و غيرها من البلدان إلى اليوم. لكن منظمة الصحة العالمية لم تحذر في بيانها ليوم 22 جانفي من خطورة الوضع بل انتقدت بشدة عمليات الحظر ومنع المواطنين من التنقل. و في 28 جانفي قابل الرئيس الصيني شي غي بينغ المدير العام للمنظمة الأممية للصحة تدروس أذانوم غبرياسوس الذي اطلع على الوضع الصحي و الإجراءات المتخذة لكنه لم يعلن حالة الجائحة العالمية. في نفس ذلك الوقت الذي عمدت الصين على عزل 56 مليون نسمة في ولاية «هوباي» -أي أكثر عدد من الشعب الإيطالي – كانت العواصم الأوروبية مهتمة بنقل رعاياها من الصين إلى مدنهم الأصلية. هذه المعطيات النابعة من جهة علمية مستقلة تشير إلى قيام الدولة الصينية بدورها في اعلام الدول المعنية بخطورة الوضع عندها. لكنها لم تكن على دراية ، وهو شيء طبيعي، بما يحصل في شمال إيطاليا و فرنسا أو في العاصمة الإسبانية
بوادر حرب باردة
المواقف الغربية الحالية الموالية للموقف الأمريكي المعارض للصين نابع في حقيقة الأمر من تخوف هذه البلدان من تغول الصين عند الخروج من أزمة كورونا. ففي نفس الوقت الذي لا تزال البلدان الأوروبية والأمريكية تتخبط في جائحة كورونا وتخطط بصعوبة للخروج من حالة الحظر الصحي لاسترجاع قدراتها الإنتاجية، تشهد هذه البلدان رجوع الصين بقوة على الساحة الدولية بتقديم مساعداتها لكل البدان بما في ذلك الولايات المتحدة الأمريكية و أوروبا.
و قد عملت السلطات الصينية و المؤسسات المستقلة و سبه المستقلة في الصين على مساعدة البلدان الإفريقية و الأسيوية و قدمت إعانات لإيطاليا (معدات صحية و طاقم من الأطباء) عندما رفضت الدول الأوروبية الوقوف إلى جانب الشعب الإيطالي. وأرسلت الصين طائرات بالأقنعة لكل البلدان الأوروبية وهي تعتبر اليوم أكبر مركز لصنع الأقنعة وآلات التنفس الخارجي في العالم على غرار ما تقوم به من صنع الأدوية المختلفة وتصديرها إلى كافة جهات العالم. وربما هذا الوضع هو الذي يفسر الهستيريا التي دخل فيها الإعلام الأوروبي و بعض المسؤولين في انتقادهم للصين حتى يكسبوا تفهم الرأي العام للإخفاقات الواضحة التي شابت إدارة أزمة كورونا في الأسابيع الماضية والتي يريد بعضهم إظهارها في صورة عودة الحرب الباردة.