لا تزال في بداياتها. اندلاع المناوشات العسكرية على الأراضي السورية بين إيران و إسرائيل غطت على التحركات الأوروبية في اتجاه التصدي لتبعات قرار دونالد ترامب. مباشرة بعد الإعلان الأمريكي قامت فرنسا و ألمانيا و بريطانيا، التي وقعت الإتفاق النووي مع ايران صحبة روسيا والصين و الولايات المتحدة، بإصدار بيان مشترك تعلن فيه تمسكها بالإتفاق النووي وتطلب من الولايات المتحدة “عدم المساس بهياكل الإتفاق و بالخطى المسجلة في شأنه” حسب “قرار مجلس الأمن الدولي عدد 2231 الذي يبقى الإطار الوحيد” لإدارة الإتفاق مع إيران.
لكن مع إصدار دونالد ترامب قرارا يشمل إعادة فرض عقوبات على إيران و على كل الشركات الأوروبية التي تواصل التعاون مع طهران دخلت العلاقات الأمريكية الأوروبية في أزمة عامة تشمل البعد الأمني لأوروبا و مصالحها الاقتصادية. و تواترت التصريحات الأوروبية بالتدرج لمواجهة القرار الأمريكي بدءا بتصريح فيدريكا موغيريني المسؤولة على العلاقات الخارجية في الإتحاد الأوروبي بأن «أوروبا سوف تحافظ على الاتفاق الأوروبي طالما التزمت إيران به». و تلاها دونالد تاسك رئيس الإتحاد في نفس الاتجاه. لكن ، في نفس الوقت، طالب السفير الأمريكي في برلين الشركات الألمانية بإيقاف التعامل مع إيران «فورا». وهو ما جعل الأحداث تتسارع في اتجاه إعلان مواجهة أوروبا للقرار الأمريكي.
ماكرون في واجهة التصدي
اغتنم الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون تلقيه جائزة شارلمان الألمانية في مدينة أكس لا شابال بحضور المستشارة أنجيلا ميركل و الملك الإسباني فيليبي السادس لإلقاء خطاب حول المشروع الأوروبي أكد فيه على ضرورة «العمل على تجسيد السيادة الأوروبية» مطلقا، على خلفية النزاع حول ايران غير انّ، تحذيرات غير مباشرة لدونالد ترامب عندما قال:«قوات أخرى قررت عدم الوفاء بكلمتها»، مضيفا «إذا قبلنا من قوات عظمى، بما فيها القوى الحليفة و الصديقة، في ساعات المحنة في تاريخنا، بأن تقرر في مسائل دبلوماسيتنا و أمننا، و أن تضعنا في بعض الأحيان في خطر، حينها ليس لنا سيادة». و دعا ماكرون حلفاءه في ألمانيا و أوروبا إلى العمل بدون تأخير لجعل من أوروبا قوة جيوسياسية و دبلوماسية قوية والأ تقبل بالمجازفة بأمنها و مصالحها.
وفي خطوة غير منتظرة ، أعلنت المستشارة الألمانية ميركل ، في نفس السياق، أن «الزمن الذي كنا نعول فيه على الحماية الأمريكية قد انتهى» مضيفة أن «على أوروبا أن تأخذ مصيرها بين ايديها». وهو تحذير واضح للموقف الأمريكي الذي حاولت ميركل بمعية ماكرون و تريزا ماي العمل على اقناع ترامب بعدم ادخال العالم في المجهول . لكن الأجندة الأمريكية الداخلية قررت مصير الإتفاق الإيراني و فتحت بابا جديدا في العلاقات الأطلسية يمكن أن يسرع في تغيير المعطيات على الصعيد الأوروبي نحو توجه وحدوي أكثر قوة يمكن فرنسا و ألمانيا من قيادة فريق أوروبي ضيق يعمل على حماية المصالح الأوروبية تجاه التغول الأمريكي.
مخاطر اقتصادية تهدد الاقتصاد الأوروبي
القرار الأمريكي بتجديد العقوبات ضد إيران يشمل كل الشركات الأوروبية التي لها تواجد على الأراضي الأمريكية. و سبق للولايات المتحدة أن فرضت عقوبات ضد شركات أوروبية منها البنك الفرنسي» بي أن بي باريبا» قيمتها 9 مليار دولار بسبب استعمال الدولار في صفقات مع إيران. وتخشى البلدان الأوروبية تكرار ذلك من أجل تركيع الحكومات الأوروبية و جعلها تساند قرار ترامب لحماية شركاتها الاقتصادية.
لكن هذه المرة، مع إعلان الإبقاء على الاتفاق مع إيران من قبل أوروبا، يدخل الإتحاد الأوروبي في مواجهة مع واشنطن لم تتحدد بعد مضامينها. ما يعرف إلى حد الآن أن المفوضية الأوروبية شرعت من 8 ماي في دراسة السبل الكفيلة بحماية مصالح الشركات الأوروبية لآن دعم الاتفاق مع إيران مرتبط بتطبيق الجانب الاقتصادي للاتفاق الضامن لرفع العقوبات وفتح باب الاستثمار و التبادل الاقتصادي بين الطرفين. من ذلك أن شرعت منذ 2015 جل الشركات الأوروبية الكبرى في إعادة العلاقات مع طهران. و وقعت اتفاقات لشراء طائرات «آيرباص» بقيمة 29 مليار يورو و أخرى تعلقت بالبنية التحتية و النقل والطاقة. كل هذه الاتفاقات تم توقيعها خلال الزيارات التي قام بها الرئيس الإيراني حسن روحاني إلى العواصم الأوروبية و التي شكلت منعرجا للاقتصاد الأوروبي أخرجه من حالة الركود التي عاشها منذ 2008.
المشكلة بالنسبة للأوروبيين هو أن الإتحاد مكبل باتفاق أبرم مع الولايات المتحدة عام 1996 يسمح للولايات المتحدة بفرض عقوبات على الشركات الأوروبية المتواجدة على الأراضي الأمريكية أو تلك التي تستعمل الدولار في معاملاتها مع إيران و كوبا. و تبقى أوروبا، من ناحية أخرى، مرتبطة باتفاق بريتن وودس لعام 1944 الذي أعطى الولايات المتحدة زعامة العالم الحر و خاصة إدارة علاقاته المالية عبر البنك الدولي و صندوق النقد الدولي. لذلك ينكب خبراء المفوضية الأوروبية على إيجاد طرق و سبل لتخطي هذه العقبات دون المساس، في الوقت الحالي، بالاتفاقات مع واشنطن. وذكرت مصادر في بروكسل أنه من الممكن حماية الشركات الأوروبية المتعاملة مع إيران بتفويض البنك الأوروبي لتمويل المشاريع الجديدة و بعدم استخدام الدولار في المعاملات مع إيران. لكن ذلك سوف يؤثر على التوازنات الحالية مع مؤسسات بريتن وودس التي تدير معظم اقتصاديات منطقة الشرق الوسط و بعض البلدان الأوروبية مثل اليونان واسبانيا وإيطاليا و حتى بريطانيا.
إعادة الإعمار وراء القرار الأمريكي
من الواضح، بالنسبة لجل العواصم الأوروبية، أن قضية إعادة إعمار سوريا و العراق و اليمن و حتى ليبيا هي وراء الموقف الأمريكي تجاه إيران. بعد 2015 قامت إيران بإعادة العلاقات الاقتصادية مع أوروبا و استثنت الولايات المتحدة الأمريكية التي تربطها بها عداءات منذ انقلاب 1953 ضد الوزير الأول مصدق مرورا بالثورة الإسلامية عام 1979 وعملية احتجاز السفارة الأمريكية عام 1980. و وجدت بذلك واشنطن نفسها في التسلل ممنوعة من فوائد الإتفاق النووي و مجبورة على رفع العقوبات ضد طهران. و مع التحولات الأخيرة في سوريا و تحالف روسيا و إيران وتركيا الأخير تجد واشنطن نفسها معزولة، مرة أخرى، من المشاركة في إعادة إعمار سوريا و العراق التي تخضع للنفوذ الإيراني وكذلك اليمن أين لم تستطع المملكة العربية السعودية وحلفاؤها القضاء على النفوذ الحوثي المدعوم من قبل إيران.
حاول الرئيس الفرنسي ماكرون خلال زيارته الأخيرة لواشنطن مقايضة الإبقاء على الاتفاق النووي مع ذكر مسألة «إعمار سوريا و العراق». لكنه لم يفلح في إقناع ترامب بحل بديل. و حذر وزير خارجية أمريكا الأسبق جون كيري ، الذي شارك في المفاوضات مع الجانب الإيراني، من «عزل الولايات المتحدة من الحلفاء الأوروبيين»، حرصا منه على عدم الدخول في المجهول. الوضع الأوروبي الحالي الذي تطغى عليه تحولات قومية في شرق أوروبا و بولونيا وإيطاليا يحتم على فرنسا و ألمانيا أن تأخذا حلا جذريا للخروج من الاتفاقات الملزمة مع واشنطن للتمكن من فرض عقوبات مماثلة على الشركات الأمريكية في صورة أقدم ترامب على معاقبة الشركات الأوروبية. و يستلزم الوضع الجديد إعادة العلاقات مع روسيا و تركيا لضمان وحدة الصف. لكن الطريق لا تزال طويلة أمام الأوروبيين. ربما القمة الأوروبية القادمة في مدينة أصلو سوف تعطي التوجهات الجديدة للمحافظة على الاتفاق النووي الإيراني والمصالح الأوروبية على ضوء النظام العالمي المتعدد الأقطاب الذي يرتكز عليه الجانب الفرنسي.