اليوم يهيمن السياسي والقانوني على كل المجالات والنقاشات العامة ليحجب الاهم ألا وهو: كيف يمكن إنقاذ البلاد من ازمتها المالية وتجنب الإفلاس والانهيار؟
ما حقيقة وضعية المالية العمومية؟ سؤال لا يطرح وإذا طرح فان الاصوات المرتفعة تحجبه لصالح نقاشات تتعلق بتصور الرئيس وبخياراته السياسية وبتقييم ما قام به من خطوات الى المآل الذي قد تجرنا إليه وتقود البلاد معه.
نقاش صم الرئيس اذنيه عنه بل اعتبره افتعالا للازمات وهو موقفه من اثارة ملفات تتعلق بالوضع المالي للبلاد وبمخاطر عدم الاسراع بتدارك اخطاء العشرية الماضية والذهاب الى الاصلاح بأسرع وقت ممكن قبل انهيار السقف والذي بات وشيكا في ظل مؤشرات عدة. داخلية وخارجية تكشف عن ان البلاد تتجه الى سيناريوهات سيئة وذلك اقل ما يقال.
اخطر ما قد تواجهه البلاد اليوم الافلاس الذي بات وشيكا، فمرة اخرى تعرضت السندات الحكومة لضغط وذلك بان سجلت ارتفاعا في تكلفة التأمين ضد مخاطر تخلفها عن السداد، وهذا الارتفاع بلغ مستوى قياسي وفق ما نشرته وكالة رويترز للأنباء نقلا عن بيانات «تريدويب» التي كشفت عن ان سندات 2024 التي يصدرها رسميا البنك المركزي التونسي تشهد تراجعا ليتم تداولها عند 83.535 سنت باليورو بعد ان كانت تتداول في 26 جويلية الفارط عند 86.348سنت باليورو. اضافة الى ما قالته الوكالة من ان بيانات من «آي.إتش.إس ماركت» تظهر ان مبادلات مخاطر التخلف عن سداد الائتمان لأجل خمس سنوات قفزت يوم الثلاثاء الفارط إلى 840 نقطة أساس، بزيادة 22 نقطة أساس عن إغلاق يوم الاثنين الفارط، مما يعنى انها ارتفعت بأكثر من مرتين عن مستوياتها في بداية عام2020.
هذه البيانات التي تصدرها مؤسسات تصنيف سيادية وائتمانية وشركات خدمات تحليل مالي والتي يمكن الاطلاع على ما ينشر منها للعموم مؤشرات مقتضبة مقارنة بما تقدمة بيانات الخدمة مدفوعة الاجر- التي تكشف لنا عن معطيات جد خطرة.
فتونس التي اصدر بنكها المركزي حزمة من السندات متوسطة الاجال وطرحها في الاسواق المالية العالمية بهدف تعبيئة مواد مالية لسد عجز المزانية وتوفير اعتمادات لإيفاء الدولة باستحقاقاتها الداخلية والخارجة، تواجه اليوم خطرين مترابطين، الاول العزوف عن شراء هذه السندات وهو ما سجل في مناسبتين عند طرح سندات تهدف الى تعبئة 1 مليار دولار أي حوالي 2.7 مليار دينار تونسي في شكل سندات يحل اجال خلاصها في 2025 وبنسبة فائدة تقدر بـ5.75 ولكنها لم تشهد اقبالا، اضافة الى عدم اقبال البنوك المحلية على شراء سندات موجهة للسوق الداخلية بقيمة 171.2 مليون دينار يحل اجال سدادها في 2024.
تجنب الاقبال على شراء السندات الرقاعية متوسطة الاجال التي تصدرها الدولة التونسية عبر بنكها المركزي ليس الخطر الاشد وان كان يعيق عملية تعبئة الموارد المالية الضرورية لسد عجز ميزانية 2021 وما يعنيه ذلك من تعثر في الايفاء بالاستحقاقات الداخلية والخارجية ومن ضغط اضافي على المالية العمومية المتازمة بطبعها.
الخطر يتمثل في ارتفاع نسبة التامين على مخاطر عدم سداد الديون وبداية التفويت في السندات الرقاعية متوسطة او طويلة الاجال التي وقع طرحها في السوق من قبل المستثمرين وما يعنى ذلك من تراجع قيمتها، الذي سيكون بمثابة رصاصة قاتلة.
خطر مؤشرات اقترابنا منه متعددة. فارتفاع نسبة التامين الى 840 نقطة اساس وفق المؤشرات الصادرة عن شركة اي اتش اس ماركت IHS Markit يعنى امرا بسيطا وهو ضعف ثقة المستثمرين بالسندات الرقاعية التونسية في مستقبل البلاد وعدم ضمانهم لاستثمارهم المالي فيها.
بعبارة اخرى ثقة المستثمرين في السندات متوسطة الاجال انخفضت الى مستويات مقلقة مما يفتح الباب امام امكانية تفويت واسعة في السندات المستحقة أي التي يحل تاريخ سدادها، بهدف تجنب مخاطر عدم السداد بسبب ازمة المالية العمومية التونسية. هذا التفويت الواسع سيكون بمثابة اعلان عالمي عن افلاس تونس كما حدث مع دول اخرى انهارت ماليتها العمومية وبعضها اعلنت عن افلاسها.
هذا هو الخطر. الذي لم يقع بعد، وهذا يعنى ان هناك فرصة اخيرة للتدارك لكنها ضيقة في الزمن، فتونس وبعد الخامس والعشرين من جويلية مرت بموجة تراجع ثقة اقل حدة من هذه ونجحت في كبحها وكبح تداعياتها المالية حينما استشعر المستثمرون والمتداخلون في السوق المالية العالمية ان الاجراءات تحظى بدعم شعبي وان الوضع السياسي في البلاد لم يتجه للاسوأ، لذلك عادت الثقة تدرجيا من منطلق وجود «فرصة وامكانية».
هذه الفرصة والإمكانية تحدث عنها في وسائل الاعلام فريد بلحاج نائب رئيس مجموعة البنك الدولي لشؤون منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، اثر زيارته لتونس ولقائه بالرئيس، حينها المح الرجل الى ان الاسواق المالية العالمية وان كانت لم تجد وضوح كافيا الا انها لاتزال تثق نسبيا في تونس رغم تراجعها في التصنيف الائتماني.
ثقة ظلت مستقرة رغم الحذر الى ان تراجعت خلال الايام الفارطة والسبب ليس في اقدام الرئيس على خطوة اصدار الامر الرئاسي عدد117، بل في عدم تحقيق ثلاث شروط اساسية يمكنها ان ترفع في منسوب الثقة.
وهذه الشروط هي «قانون مالية 2022» وحكومة جديدة واتفاق مع صندوق النقد الدولي، وثلاثتها مرتبطة بتشكيل حكومة وهي الخطوة التي تأخر فيها الرئيس فكان ثمنها ان تتعقد الاوضاع المالية وتنتقل مؤشراتنا المالية الى اللون الاحمر القاني المنذر بخطر وشيك.
الخطر الوشيك هو استمرار الغموض الذي سنعكس سلبا على صورة البلاد وعلى تقديرات المستثمرين، وهذا يعنى ان البلاد ان لم تتمكن في وقت قريب من تحقيق شروط ضمان استدامة الديون وتوفير امكانية الخروج الى السوق المالية العالمية دون الوقوع رهينة انسداد الافق الذي سيقوها الى الاقتراض بنسبة فائدة مشط وبآجال قصيرة المدى دون فترة امهال اي مزيد من الضغط على ماليتها العمومية.