أتى بالجديد المزلزل : تقدم ساحق للحزب الدستوري الحرّ الذي لم يعد يكتفي فقط بتصدر المشهد بل يعمق الفارق بصفة غير مسبوقة مع حركة النهضة وذلك بـ14 نقطة كاملة : %35.8 للدستوري الحر مقابل %21.9 لحركة النهضة.. فالاستقطاب الثنائي الحاد متواصل وهو الآن بوضوح لفائدة الدستوري الحرّ، هذا القادم من بعيد والذي هو بصدد تغيير التوازنات الحزبية رأسا على عقب ..
بعيدا عن هذا الثنائي نشاهد نوعا من الاستقرار في المشهد الحزبي: قلب تونس (%10) فالتيار (%6.6) ثم ائتلاف الكرامة بـ%6.3 مع الملاحظ بأن %62.4 من المستوجبين لا يعلنون إلى حدّ اليوم عن نوايا التصويت ايجابية ..
في الرئاسية مازال قيس سعيد يحلق وحده بعيدا عن البقية ويفوز بالرئاسة منذ الدور الأول وبفارق عريض للغاية %65.1 فيما لا تحصل الثانية ، عبير موسي ،إلا على %8.1 من الأصوات مع الملاحظة بأن نسبة وضوح الاختيار هي أرفع بكثير في الرئاسية إذ يعلن %61.5 عن نوايا تصويتهم مقابل %37.6 فقط في التشريعية.
نوايا التصويت في التشريعية – لو حصلت اليوم – تؤشر إلى انقلاب جذري في موازين القوى السياسية فالحزب الدستوري الحرّ الثالث في انتخابات 2019 من حيث عدد الأصوات (دون %7) والخامس من حيث عدد النواب (17 نائبا منتخبا على قائماته) يجد نفسه فائزا بصفة ساحقة في انتخابات تشريعية افتراضية وهو يرتقي من شهر إلى آخر في سلم تصاعدي لا ندري حدوده ونراه اليوم قد احتل تقريبا كل المخزون الانتخابي للنداء التاريخي في 2014.
اليوم يتقدم الدستوري الحرّ على النهضة في كل الفئات والجهات والأعمار ، ولا تتفوق النهضة عليه إلا في معاقلها التاريخية وهي ولايات الجنوب الستة بشرقيها وغربيها .
السوسيولوجيا الانتخابية للدستوري الحرّ والنهضة:
يمكن أن نقول بصفة إجمالية أن القاعدة الانتخابية للدستوري الحر كما يبينها بصفة إجمالية سبر آراء نوايا التصويت سيغما – المغرب لشهر أوت الحالي تتقاطع بصفة كبيرة للغاية مع القاعدة الانتخابية للنداء التاريخي سنة 2014 ، أي أن الدستوري الحر في صائفة 2020 هو التعبير الامثل للقوى الاجتماعية التي صنعت ربيع نداء تونس منذ ست سنوات خلت .
• المعطى الجهوي هو المعطى الجوهري في الانتخابات التشريعية باعتبار أن تقسيم الدوائر الانتخابية يتبع التقسيم الجهوي للبلاد التونسية بدائرة لكل ولاية وبدائرتين لكل من تونس ونابل وصفاقس .
يحقق الدستوري الحر أرقاما قياسية في تونس الكبرى (تونس وأريانة وبن عروس ومنوبة) بـ%44.1 (%23.5 للنهضة ) وكذلك بالشمال الغربي (باجة وجندوبة والكاف وسليانة ) بـ%43.6 (%17.5 للنهضة) والوسط الشرقي (سوسة والمنستير والمهدية) بـ%41.1(%19.6 للنهضة ) وصفاقس بـ%42.8 (%14.4 فقط للنهضة ) وما يفسر التراجع الكبير لحركة النهضة في ولاية صفاقس حققت فيها دوما نتائج طيبة حتى عندما هزمها نداء تونس في 2014 هو اقتسامها لنفس المخزون الانتخابي مع ائتلاف الكرامة الذي يحقق في صفاقس أفضل نتائجه بـ%14.8 من نوايا ،كذلك مع صمود لافت لقلب تونس بـ%10.8 .
أما في الشمال الشرقي (بنزرت ونابل وزغوان) فتقدم الدستوري الحرّ على النهضة يبقى نسبيا (%31.3 مقابل %26.7) وكذا الشأن إلى حدّ ما في جهة الوسط الغربي (سيدي بوزيد والقيروان والقصرين) حيث يتقدم الدستوري الحرّ ولكنه لا يحوز إلا على %22.2 من نوايا الأصوات في حين تتقاسم النهضة وقلب تونس وائتلاف الكرامة المرتبة الثانية بـ%14 من نوايا التصويت .
الانتصار الواضح الوحيد لحركة النهضة فيبقى في ولايات الجنوب الشرقي (قابس ومدنين وتطاوين ) حيث تنال %35.9 من نوايا الأصوات مقابل %20.1 للدستوري الحرّ أما ولايات الجنوب الغربي (قفصة وتوزر وقبلي) فتقدم النهضة فيها نسبي للغاية: %23.8 وهو مهدد بقوة من قبل الدستوري الحر وقلب تونس بـ%19 من نوايا التصويت لكل واحد منهما .
• من مميزات الصعود القوي للحزب الدستوري الحرّ انه اكتسح بقوة التصويت النسائي إذ تعلن %43.1 من مجموع المستجوبات المصرحات بنوايا تصويتهن عزمهن على انتخاب قائمات الدستوري الحر مقابل %19 فقط للحركة الإسلامية ومع ذلك يبقى الدستوري الحرّ متقدما أيضا في نوايا التصويت للرجال بـ%28.1 مقابل %24.2 للنهضة .
• اكتساح الدستوري الحر ملاحظ أيضا في كل الفئات الاجتماعية (الطبقة الشعبية والطبقة الوسطى السفلى والعليا كذلك) باستثناء الطبقة المرفهة التي لم تنخرط بعد بالكلية مع حزب عبير موسي وحيث مازالت حركة النهضة تتمتع بأفضلية نسبية .
• على مستوى الجيل يتقدم الدستوري الحر على النهضة عند صغار (26- 44 سنة) وكبار الكهول (45 -59 سنة) ولكن خاصة عند من تجاوز الستين اذ تمثل نوايا التصويت للدستوري أكثر من النصف (%56.3) أما عند الشباب (28-25 سنة) فما زالت النهضة متقدمة على الدستوري الحرّ.
• معرفيا يتفوق الدستوري الحر على النهضة في كل مستويات التعليم ويتعادلان فقط بالنسبة للاميين .
خلاصة القول نحن في وضعية تشبه كثيرا ربيع سنة 2014 حيث كان نداء تونس يتقدم بوضوح على حركة النهضة في كل عمليات سبر الآراء ،تقدم توجه بتفوقه في الانتخابات العامة في خريف 2014 تشريعيا ورئاسيا كذلك ..
الفرق الأساسي بين الدستوري الحر لسنة 2020 ونداء تونس لـ2014 هو وجود نوع من الحاجز بين التشريعية والرئاسية حيث لم يتمكن الدستوري الحر عبر زعيمته عبير موسي من تحويل الزخم التشريعي إلى قدرة على الفوز بالرئاسية أو حتى التنافس الجدي عليها إلى حدّ الآن.
نوايا التصويت في الرئاسية:
قيس سعيّد دون منافسة
لو جرت الانتخابات الرئاسية غدا لفاز بها قيس سعيد منذ الدور الأول وبفارق عريض للغاية : حوالي ثلثي الأصوات (%65.1) فيما لا تحرز صاحبة المرتبة الثانية ، عبير موسي، إلا على %8.1 متبوعة بنبيل القروي (%7.3) فالصافي سعيد (%5.9) والمنصف المرزوقي (%3.2) هذا ونذكر بأن نسبة وضوح نية التصويت في الرئاسية ارفع بكثير مما هي عليه قفي التشريعية (%61.5 مقابل %37.6).
يمكن أن نقول بأن كل أزمات البلاد وشبه انعدام الثقة في الطبقة السياسية لا يمس لا من قريب لا من بعيد رئيس الجمهورية الذي يحلق عاليا في سمائه الخاصة دون بوادر شبه منافسة من قبل كل ملاحقيه ..
وهذا يضعنا أمام المفارقة الأساسية للوضع السياسي الراهن كما يتجلى من سبر آراء نوايا التصويت إلى آخر : التباين التام بين موازين القوى السياسية في التشريعية وتعبيراتها الممكنة في الرئاسية .
نذكر بداية بأن أجوبة العينة التلقائية ولا وجود لقائمة معينة لا للأحزاب في التشريعية ولا للشخصيات في الرئاسية .
الواضح سياسيا أن الحزب الدستور الحر لولا زعيمته عبير موسي وإستراتيجيتها الهجومية على الحركة الإسلامية لكان حزبا عاديا في أفضل أحواله ورغم هذا يحصل الحزب على ريادة واضحة في التشريعية دون أن تتمكن زعيمته من نفس هذه الريادة عندما يتعلق الأمر بالرئاسية ، كما أن قيس سعيد الذي يحلق فوق الجميع في الرئاسية لم يستطع إلى حد الآن تحويل جزء ولو يسير من هذه الشعبية الاستثنائية الى مشروع سياسي قادر على المنافسة في التشريعية ..على الأقل إلى حدّ الآن .
التفسير الأكثر عقلانية في نظرنا هو أننا في مستويين مختلفين من انتظارات الناخبين .
• المستوى الأول هو عودة الاستقطاب القوي مع أو ضد مشروع الإسلام السياسي ، أي مع أو ضد حركة النهضة وهذا ما يدفع بالدستوري الحر الذي أتقن هذه الإستراتيجية إلى المرتبة الأولى لان جزء متعاظما من التونسيين يعتقدون أن عبير موسي وحدها قادرة على إيقاف الزحف» الإخواني» أما عندما نتحول إلى الرئاسية فيصبح الأساسي هو الثقة
(من عدمها) في الشخصيات السياسية وهنا يعبر التونسيون بوضوح بأنه لا ثقة لديهم في السياسيين المحترفين (وعبير موسي من بينهم وإن كان ذلك بدرجة أقل) وأن ثقتهم المتجددة في شخص رئيس الجمهورية القادم من فضاء مغاير تماما للفضاء الحزبي هو تأكيد لهذا الارتياب من الأحزاب .
لاشك أن هذه المفارقة غير قابلة للاستمرار وان احد طرفي المعادلة سينتهي في الأخير لفرض منطقه الخاص على كامل الحياة السياسية ولكن إلى حد الآن تبقى البلاد تعيش تحت وقع ثنائيتين : مع أو ضدّ الإسلام السياسي (التشريعية) ومع أو ضدّ منظومة الأحزاب (الرئاسية ).
لمن ستؤول الغلبة في النهاية ؟ الجواب الأول لن يأتينا قبل الانتخابات القادمة وفي الأثناء سيكون لتغيير موازين القوى السياسية لدى الرأي العام نتيجة أساسية واحدة : إمّا الإسلام السياسي (النهضة أو ائتلاف الكرامة) أو النقيض الجذري له (الدستوري الحر) أما من يريد نهج طريق ثالث فعليه أن يستفيق باكرا كما يقال .
الجذاذة التقنية للدراسة
• العينة: عينة ممثلة للسكان في الوسط الحضري والريفي مكونة من 803 تونسيا تتراوح أعمارهم بين 18 سنة وأكثر.
• تم تصميم العينة وفق طريقة الحصص (Quotas) حسب الفئة العمرية ، الولاية، الوسط الحضري أو الريفي.
• طريقة جمع البيانات: بالهاتـــف
CATI (Computer Assisted Telephone Interviewing, Call-Center)
• نسبة الخطأ القصوى: %3.5
• تاريخ الدراسة: 8 أوت 2020 إلى 11 أوت 2020