ويقول ما من شأنه ان يكون عصب العملية السياسية خلال الايام القليلة القادمة « نحن محظوظون فرئيسنا من الفقهاء في القانون الدستوري» ، قول له اكثر من معنى ولكن ما عناه رئيس المجلس ليس الا الذي يتعلق بالنهضة.
رغم حدّة الخطابات التي القاها اعضاء مجلس نواب الشعب عن حركة النهضة واستماتتهم في الدفاع عن حكومة الجملي المقترحة الا انّهم يدركون اكثر من غيرهم، ان مصير الحكومة حسم صباح الجمعة الفارط في بهو المجلس ، وان عليهم ادارة ما تبقى من العملية وانهاء العرض.
عرض تدرك النهضة ان استمرارها في تقديمه اكثر من ضروري لها ، ليس حبا في الحكومة التي علمت نهايتها بل حبا في ذاتها فالنهضة حرصت على ان تجد لنفسها في كلمات قادتها مكانا في مرحلة ما بعد الجملي، وهذا المكان لن تظفر به دون ان تجد توافقا مع لاعب اساسي هو رئيس الجمهورية والاهم ان تصل الى توافق مع خصوم الجمعة.
خصوم تدرك النهضة حجم التناقضات التي تشقهم، خاصة بعد تعثر محاولة تشكيل جبهة برلمانية تضم كلا من صوت بـ«لا» على حكومة الجملي باستثناء الحزب الحر الدستوري، اذ رفض التيار الديمقراطي المشاركة في هذه الجبهة ورفضه دفع بشريكه في الكتلة الديمقراطية الى اعادة النظر في الجبهة. وهو ما قد يسهل عليها مهمة اختراق جبهة الخصوم.
ما يشغل الحركة حاليا ليس التفكير في كسر الحصار الذي تخشي ان يفرض عليها في البرلمان وان ينتهى بسحب البساط وسحب الثقة من راشد الغنوشي كرئيس للبرلمان ، ما يشغلها بالأساس هو من سيكون مرشح رئيس الجمهورية الذي تنظر اليه على انه المتحكم اليوم في مصيرها.
فوفق الخيار الذي سينتهجه رئيس الجمهورية قيس سعيد ستحدد النهضة ما العمل؟ ، ولكنها اليوم تسعى لضبط تصور اولي لكل سيناريو ممكن ، فهي تدرك ان الامر محصور بين اثنين لا ثالث لهما، اما ان يلتزم الرئيس بنص الدستور والتأويل المصاحب له والذي ينص على انه يجب ان يستشير الاحزاب وان يختار بالتشاور معهم لاحقا مرشحا لرئاسة الحكومة يكون الاقدر، او ان يتشاور معهم التزاما بما ينصه الدستور ولكن له صلاحية اختيار مطلقة لمن يكون مرشحه.
في الخيارين هناك تداعيات عدة، وهناك تفاصيل مترابطة تجعل الذهاب الى اي منهما مقترنا بخطوات منفصلة في ظاهرها لكنها تتقاطع في نقطة محددة تختلف باختلاف الخيار ان كان الاول او الثاني.
فان اختار الرئيس ان يذهب في التأويل الذي تشجع عليه النهضة للفقرة الثانية من الفصل 89 من الدستور الذي يمنح رئيس الجمهورية عشرة أيام للمشاورات مع الاحزاب تنتهى باختيار الشخصية الاقدر وتكليفها بتشكيل حكومة. والذي يؤول على انه يلزم الرئيس بان يكون مرشحه حظي بقبول الاحزاب او من بين من تقدمهم له الاحزاب من مرشحين.
تأويل عكسته النهضة في بلاغها الذي صدر امس وشدد على انها تدعو الرئيس لتشكيل حكومة وحدة وطنية توافقية على ارضية اجتماعية، ففي البلاغ النهضة اشارت الى انها ترغب من الرئيس ان يكون مرشحا توافقيا اي يحظى بدعم الاحزاب وبدعمها هي بالذات، دون ان تكشف ذلك صراحة، مكتفية بالتلميح والتشديد على ثقتها في الرئيس.
ثقة تقول النهضة انها تكنها للرئيس ، وهي ايضا ثقة في ان النهضة «العمود الفقري للبلاد» وفق قول رئيسها راشد الغنوشي الذي شدد على ان الانسان لا يمكنه العيش دون عموده الفقري، مثلا اراد من خلاله الغنوشي التنبيه من ان يقع ابعاد حركته من المشهد.
فهذا ما تخشاه النهضة، لذلك فهي تدفع الى ان يتجه الرئيس لمرشح لا تعترض هي عليه، ولذلك يجب ان يكون هذا المرشح غير معاد لها، هذا الخيار الاول الذي قد يتجه اليه قيس سعيد ولكن امامه خيار ثان وهو ان ينهى جلسات التشاور مع الاحزاب ويختار هو وفق تقديره الشخصي شخصية يراها الأنسب وهذه الشخصية قد لا يشترط فيها ان تحظى بالدعم الحزبي من الجميع.
فرضية تخشاها النهضة وتعمل على الحؤول دونها ، لتجنب الاسوأ وهو الحصار التام لها في المجلس وابعادها عن الحكم ودفته ، فالنهضة تدرك ان الشخصية الاقدر لرئاسة الحكومة التي سيكلفها الرئيس ستكون بشكل او بآخر مؤثرة على وجودها في المشهد ولهذا فهي لا ترغب في ترك الامر للصدف او لأهواء الرئيس بل تريد وضع ملامح لهذه الشخصية والمساهمة في تحديدها.
واول العناصر التي تشترك النهضة فيها مع جل خصومها بشأن هوية الشخصية الاقدر- وهو شرط موضوعي - هي ان يكون من خارج الاحزاب، ولكن النهضة تذهب ابعد في تحديد «بروفيل» الشخصية الاقدر وتامل ان لا يعارض تشكيل حكومة سياسية او معززة بوجوه سياسية واضعف الايمان ان يسعى لتشكيل حزام سياسي يضم النهضة ولا يقصيها ان قرر ان تكون حكومته من المستقلين فعليا.
هذا فقط ما قد يخفف العبء عن حركة النهضة ويحول دون تكاتف جل خصومها من الـ134 نائبا، وهو ما تراه النهضة ممكنا بل وحتميا ، بالنظر الى ان الرئيس سيكون ملما بتناقضات المجلس وما قد يفرضه ذلك من البحث عن حزام سياسي واسع للحكومة ، وهو لن يتحقق دون حركة النهضة.
حركة تغازل الرئيس خفية بأنها قادرة على توفير حزام سياسي لمرشحه للحكومة ، ان كانت هي جزءا من الحل ، وهذا الحزام يتكون منها اساسا ومن وفاعلين اخرين ستحددهم الخيارات التي ستنتهجها الشخصية الاقدر. وهذا ما سيجعل النهضة تتحرك على اكثر من صعيد لجس نبض بقية الكتل في المجلس لرسم ملامح القادم.