في الطعن الموجّه ضدّ الأحكام النهائية المتعلقة بتوظيف الأداءات والمعاليم الراجعة للدولة والجماعات المحلية، وكذلك الأحكام النهائية المتعلقة باسترجاع تلك الأداءات والمعاليم، كما أنّ هذا الاختصاص التعقيبي يمتدّ إلى النظر في الطعون الموجّهة ضد الأحكام النهائية في شأن مطالب الاعتراض على البطاقات التنفيذية المتعلّقة باستخلاص ديون الدولة والجماعات المحلية والمؤسّسات العمومية المخوّل لها قانونا استخلاص ديونها بمقتضى بطاقات تنفيذية».
ومن جهته اقتضى الفصل 69 من مجلة الحقوق والإجراءات الجبائية أن «يتمّ تعقيب القرارات الصادرة عن محاكم الإستئناف في الدعاوى المنصوص عليها بالفصل 54 من هذه المجلة طبقا للإجراءات المنصوص عليها بالقانون الأساسي المتعلق بالمحكمة الإدارية وبالقوانين التي نقّحته أو تمّمته».
واستنادا إلى أحكام الفصل 21 من قانون المحكمة الإدارية، يمارس القاضي الإداري اختصاصه الجبائي المذكور بطريقتين:
أوّلا: عن طريق الدوائر التعقيبية للمحكمة الإدارية،
ثانيا: عن طريق الجلسة العامة القضائية للمحكمة بغاية توحيد الآراء القانونية بين الدوائر أو للحسم في مسائل قانونية جوهرية أو في الحالات المنصوص عليها بالفصل 75 من ذات القانون والتي تتمثّل بالأساس في صورة مخالفة محكمة الإحالة ما قرّرته الجلسة العامة أو الدائرة التعقيبية في هذا الحكم لنفس السبب الذي وقع من أجله النقض، وإذا رأت نقض الحكم فإنّها تبتّ في الأصل نهائيا.
ويتّجه التأكيد على أنّ نظر القاضي الإداري في المادة الجبائية يقتصر على النظر في المطاعن القانونية التي سبق التمسك بها لدى حاكم الأصل كالنظر كذلك في المطاعن المتعلقة بالنظام العام التي قد تثار لأوّل مرة أمامه أو تلك المتعلقة بعيب تسرّب إلى الحكم المطعون فيه لا يمكن معرفته إلا بالاطلاع على ذلك الحكم، ومن هنا يتأكد أنّ القاضي الإداري المختص تعقيبيا في المادة الجبائية إنما ينتصب بالأساس بصفته مراقبا لحسن تطبيق القانون من طرف قضاة الأصل ولا يبتّ في ما قرّره هؤلاء إلا استثناء.
وبالرغم من ذلك، فقد سعى القاضي الإداري الجبائي إلى لعب دور مهم في حماية مبدإ الشرعية الجبائية وضمان احترام أداء الواجب الجبائي على أساس قواعد العدالة والإنصاف فضلا عن تكريسه لمبدأ المساواة أمام القانون في تحمّل الأعباء الجبائية.
كما دأب كذلك على إيجاد التوازن المنشود بين الصلاحيات الواسعة لإدارة الجباية في تتبّع واستخلاص الأداء وبين الضمانات المشرّعة لفائدة المطالب بالضريبة حماية له من كل تعسّف محتمل، دون أن يغفل كذلك عن حماية المال العام وضمان حقوق خزينة الدولة ومقاومة التهرب الجبائي والتّصدي لكل أشكال المنافسة غير الشريفة.
ويمكن القول عموما أنّ الدور الذي لعبه القاضي الإداري في مجال تتبع المادة الجبائية والتصدّي للتهرب الجبائي قد برز بوضوح من خلال تكريسه لسياسة فقه قضائية تقوم على الثوابت الثلاث التالية:
1 - اختلال الإجراءات أو تعيّب الشكليات زمن توظيف الضريبة أو بمناسبة استخلاصها لا يمكن أن يؤدي آليا إلى التفصي من الأداء المستحق لفائدة الخزينة.
2 - الضمانات القانونية المشرّعة لفائدة المطالب بالضريبة بصفته طرفا ضعيفا أمام الإدارة لا يمكن أن تكون مدعاة للإعفاء من الأداء.
3 - مبدأ الشرعية الجبائية لا يتعارض مع واجب مراعاة واقعية القانون الجبائي التي تقتضيها بعض الوضعيات.
• أوّلا: اختلال الإجراءات أو تعيّب الشكليات لا يؤدي آليا إلى التفصّي من الأداء المستحق:
سعى القاضي الإداري من خلال فقه القضاء الصادر عنه في المادة الجبائية إلى التمييز بين الإخلالات الإجرائية والشكلية البسيطة القابلة للتصحيح والتدارك عن غيرها من الإجراءات والشكليات التي تتميّز بصبغتها الجوهرية والتي لا تقبل أيّ وجه من أوجه التصحيح والتي يترتّب عن الإخلال بها السقوط أو البطلان، كما حرص على تغليب الغاية من سنّ الإجراء كعنصر محدّد في ترتيب الجزاء المناسب بحسب الحال، بحيث تكون العبرة في الأخير بمدى تحقّق الغاية المرجوّة من سنّ الإجراء أو من الشكلية وبغياب كل ضرر جدّي يلحق بالمطالب بالأداء، وقد برزت تجليّات هذا التّوجه في مستويات عدّة لعل أبرزها ما يلي بيانه:
1 - على مستوى شكليات إصدار وسحب قرارات التوظيف الإجباري:
استقر فقه القضاء الإداري على أنّ عدم التنصيص ضمن قرار التوظيف الإجباري على أنّ هذا الأخير إنما صدر نيابة عن وزير المالية وبتفويض منه لا يشكل في حدّ ذاته إخلالا بإحدى الشكليات الجوهرية طالما ثبت أنّ القرار المذكور أمضاه رئيس المركز الجهوي لمراقبة الأداءات في إطار تأهيل تشريعي سابق الوضع وطبقا لقرار في التفويض صادر عن صاحب الإختصاص الأصيل3.
وفي نفس السياق، استقر الرأي على أنّه وطالما كان قرار التوظيف الإجباري ممضى من طرف السلطة المؤهلة لذلك، فهو يشمل القرار برمّته وبجميع مكوناته بما في ذلك تقرير التوظيف الملحق به والذي يعدّ جزءا لا يتجزّأ من قرار التوظيف4.
كما انتهت المحكمة الإدارية ضمن رأيها الاستشاري الصادر تحت عدد 419 بتاريخ 19 ماي 2008 إلى أنّه لا يمكن للإدارة سحب قرارات التوظيف الإجباري طالما كانت شرعية وقائمة على عناصر واقعية وقانونية سليمة عملا بمبدأي المساواة وواجب أداء الضرائب المكرّسين بالدستور.
2 - على مستوى إجراءات تبليغ إعلامات إدارة الجباية:
استقرّ فقه القضاء الإداري الجبائي على أنّ الخلل العالق بعملية تبليغ قرار التوظيف الإجباري للأداء أو الأعلام بنتائج المراجعة لا تأثير له على شرعية التوظيف من حيث أصله وأساسه وإنما يقتصر أثره على بقاء آجال الطعن مفتوحة، كما أنّ العبرة في التبليغ أن يتمّ في آخر عنوان مصرّح به، وفي حالة عدم إعلام الإدارة بتغيير العنوان طبقا لأحكام الفصل 57 من مجلة الضريبة على الدخل، فإنّ تبليغ قرار التوظيف إلى العنوان المضمّن بالتصريح بالوجود يعدّ تبليغا سليما ولا عبرة لإدلاء المطالب بالضريبة أمام القاضي بنسخة محيّنة من مضمون السجل التجاري تتضمّن عنوانا مغايرا غير معلوم بالنسبة للإدارة الجبائية5.
أمّا تبليغ إعلامات الإدارة وتقاريرها في الطور التعقيبي عن طريق أعوانها فهو يعدّ مقبولا ويحد أساسه في الفصل 124 من الأمر العلي المؤرخ في 3 أكتوبر 1884.
• ثانيا: الضمانات المشرّعة لفائدة المطالب بالضريبة ليست مدعاة للإعفاء من الأداء أو للتهرب منه:
لئن بدا جليا من خلال تفحص القرارات التعقيبية الصادرة عن المحكمة الإدارية في المادة الجبائية أنّ القاضي الجبائي حرص على احترام الضمانات الإجرائية والموضوعية المشرّعة لفائدة المطالب بالضريبة باعتباره الطرف الضعيف في مقابل ما تتمتّع به إدارة الجباية من صلاحيات واسعة في مجال تتبع المادة الجبائية، فإنّه لم يكن مغاليا في ذلك إلى الحدّ الذي يحول دون استخلاص مستحقّات خزينة الدولة كلما ثبت له أنّ بعض الإجراءات أو الشكليات ستكون حائلا دون ذلك أو هي تحوّلت إلى وسيلة للتفصّي أو للإعفاء من دفع أداء ثابت وشرعي ولا منازعة فيه من حيث الأصل، وقد برز هذا التوجه من خلال الأمثلة التالية:
-1 الإجازة المتاحة لإدارة الجباية في إعادة إصدار قرار توظيف تعويضا لقرار سابق تمّ التفطن لخلل شكلي أو إجرائي علق به قبل انقضاء آجال الطعن أو حتى بعد التصريح ببطلانه بحكم قضائي، وذلك استثناء لمبدإ الصبغة النهائية للمراجعة شريطة أن يتعلّق الأمر بإبطال من أجل عيب شكلي أو أجرائي دون بتّ القضاء في أصل النزاع وتعلّق قرار التوظيف التصحيحي بنفس الفترة ونفس الأداءات المشمولة بقرار التوظيف الملغى، وأن لا يترتّب عن إقرار التوظيف الجديد تعكير وضعية المطالب بالأداء مقارنة بالقرار الأوّل ولا إفراغ الإجراء الذي تم على أساسه الإبطال من معناه6.
وفي نفس السياق اعتبرت المحكمة الإدارية في أحد قراراتها التعقيبية أنّ قاضي الموضوع يعتبر عند نظره في المادة الجبائية قاضيا إداريا له دور استقصائي وتوجيهي يفرض عليه مطالبة الأطراف بالإدلاء بالوثائق اللازمة للفصل في النزاع إضافة إلى تدارك ما قد يشوب تلك الوثائق من إخلالات، وعليه فإنه كان يتوجب على قاضي الأصل أن يتثبّت بنفسه من أسس التوظيف ومن تواريخ البيع والشراء المضمّنة بالعقود ومقارنة التنصيصات الواردة بها بتلك الواردة بتقرير التوظيف الإجباري للأداء وينتهي إما إلى الإقرار بصحتها أو الإذن بإعادة عملية احتساب الأداء المستوجب على ضوء ما يتوفر لديه من وثائق ومعطيات ثابتة، بل إنّه بإمكانه الذهاب إلى الإذن بتصحيح العيب الشكلي الذي شاب تقرير التوظيف الإجباري إذا تأكد لديه أنّ ذلك لا تأثير له على سلامة أسس التوظيف 7.
2 - إنّ الإخلال بواجب السر المهني موضوع الفصل 15 من مجلة الحقوق والإجراءات الجبائية لا يؤدّي إلى إبطال قرار التوظيف الإجباري، ذلك أنّ المسألة المتعلقة بمخالفة أحكام الفصل 15 سالف الذكر لا تتعلق بالنظام العام بل هي تهمّ مصالح الخصوم الشخصية، فضلا عن أنّ عدم احترام مبدأ السرية من جهة وجوب إحالة الإعلامات والمكاتيب المتعلقة بالأداء في ظروف مغلقة لا تأثير له على سلامة عملية التوظيف وإجراءات المراقبة وإنما تقتصر آثاره على جواز مساءلة مرتكب تلك المخالفة وترتيب مسؤوليته الشخصية عن ذلك الخطأ 8.
3 - إنّ تعيّب قرار التوظيف من جهة افتقاده للتعليل القانوني المطلوب لا يؤدّي حتما إلى إبطاله وإعفاء المعني به من الأداء من أجل ذلك العيب، ذلك أنّه وبالرغم من أنّ التعليل المذكور يعدّ ضمانة جوهرية كفلها القانون حماية للمطالب بالأداء من تعسّف الإدارة حين ممارستها لصلاحيات التعديل، فإنّ الخطأ على مستوى ذكر فائض الضريبة الواقع إقراره بعد المراجعة ليس من شأنه أن يؤدّي إلى بطلان القرار طالما تّم التنصيص على الفائض المذكور تنصيصا صريحا وصحيحا ضمن تقرير التوظيف الملحق بقرار التوظيف، فضلا عن إمكانية مجابهة الإدارة بما ورد في تقرير التوظيف بخصوص الفائض المذكور بما ينتفي معه كل ضرر لاحق به أو كل مسّ من الضمانات المخولة له في هذا المجال9 .
في نفس السياق انتهت المحكمة الإدارية إلى أنّ عدم التنصيص على نسبة الصرف التي اعتمدتها الإدارة ضمن قرار التوظيف الإجباري للأداء لا يؤثّر على شرعيته، ضرورة أنّ الأمر يتعلّق بجزئية صغيرة يمكن استنتاجها بسهولة من الأرقام التي توصّلت إليها إدارة الجباية بما يمكّن من الإلمام بالنسبة المذكورة ومن مناقشتها لاحقا10.
4 - إنّ عدم التنصيص على مآل جميع الأداءات محلّ المراجعة والاقتصار على الأداء الوحيد الذي كان محل تعديل لا يؤدّي لوحده إلى بطلان قرار التوظيف، ضرورة أنّ الإغفال المذكور ليس إغفالا جوهريا ولا يمسّ من ضمانات المطالب بالأداء من حيث عدم جواز إخضاعه لمراجعة جبائية ثانية بعنوان نفس الأداء طالما أنّ الإدارة ستجابه في هذه الحالة بالإعلام بالمراجعة الذي تضمّن إشارة إلى جميع الأداءات التي ستكون محل مراجعة11.
5 - إنّ عدم التنصيص بالجدول المضمّن بقرار التوظيف على مجمل المبالغ المطالب بها لا يعدّ هو الآخر إغفالا جوهريا طالما تمّ تفصيل تلك المبالغ التكميلية بتقرير التوظيف الملحق بقرار التوظيف، وقد أمكن للمطالب بالأداء أن يطّلع على تلك المبالغ ويناقشها، ولا يمكنه بالتالي عملا بمبدأ المساواة أمام القانون أن ينتفع بإعفاء من الأداء نتيجة لهذا الإغفال البسيط 12.
6 - إنّ الغلط في احتساب الضرائب المستوجبة على مستوى قرار التوظيف لا ينال من وعاء الضرائب ولا يؤدّي إلى الإبطال طالما نص الفصل 66 من مجلة الحقوق والإجراءات الجبائية على قابليتها للتصحيح والتعديل ولو في طور التقاضي بموجب إذن من المحكمة لإعادة عملية الإحتساب سواء من قبل الإدارة أو بواسطة خبير بطلب من المطالب بالأداء 13.
7 - إنّ عدم التنصيص على النص القانوني الذي استندت إليه مصالح الجباية في إجرائها للتعديل والمتمثّل في الفصل 21 من مجلة تشجيع الاستثمار ليس من شأنه أن ينال من شرعية قرار التوظيف على أساس مخالفته أحكام الفصل 50 من مجلة الحقوق والإجراءات الجبائية التي أوجبت التنصيص على مثل هذا التعليل بالخانة المخصّصة له بقرار التوظيف، ضرورة أنّ الأعوان المحقّقين علّلوا عدم قبول طرح الأرباح المتأتية من تعليم الطلبة الأجانب من أساس الضريبة على الشركات بأنّ خدمات التعليم الخاص الموجّهة إلى أولئك الطلبة لا تدخل ضمن خدمات التصدير لأنّها أسديت واستغلّت بالبلاد التونسية، وهو تعليل قانوني يستمدّ أساسه من أحكام الفصل 21 المذكور، فضلا عن أنّه تعديل وحيد أمكن للمطالب بالأداء منذ الأطوار الأولى للمراجعة أن يلمّ به وبأسانيده القانونية وبالتالي من الاعتراض عليه بأيسر السبل14.
• ثالثا: الشرعية الجبائية لا تتعارض مع إعمال مبدإ واقعية القانون الجبائي:
يقتضي مبدأ الشرعية الجبائية وجوب استناد كل أداء أو ضريبة أو معلوم إلى قانون سابق الوضع يضبط وعاءه ونسبه وحدث إنشائه ومجال انطباقه وحالات الإعفاء منه.
وانطلاقا من المبدأ المذكور، حرص القاضي الإداري المنتصب تعقيبيا في المادة الجبائية على عدم الأخذ بعين الاعتبار المذكّرات الإدارية غير المطابقة للقانون، فالإدارة تعارض بما تنتجه من فقه وتلتزم بمحتواه بشرط عدم مخالفة النص القانوني ساري المفعول، ولا يجوز لها التوسّع أو التضييق فيما لم يقتضه القانون، وليس لها كذلك أن تستثني المطالب بالأداء من الإنتفاع بنظام جبائي معيّن إلا بنص قانوني من نفس المرتبة عملا بمبدأ توازي الصيغ والإجراءات15.
أمّا بخصوص اعتماد إدارة الجباية للمناشير الداخلية الصادرة عنها، فقد أكّد القاضي الإداري أنّ وظيفة تلك المناشير لا يمكن أن تتعدّى تفسير القانون وتبسيط أحكامه، وكل سنّ لتراتيب جديدة بموجبها يجعل منها مقرّرات غير شرعية وحرية بالإستبعاد.
وفي باب تأويل النصوص الجبائية، حرص ذات القاضي على إعمال مبدأ التأويل الضيّق للنص الجبائي كلّما كانت عباراته صريحة وخالية من كل لبس فيما اقتضته من تتبّع للمادة الجبائية ولاستخلاصها لفائدة خزينة الدولة على غرار تأويله لأحكام الفصل 38 من مجلة الحقوق والإجراءات الجبائية في اتّجاه إجازة اعتماد الإدارة على عناصر خارقة للمحاسبة كالقرائن القانونية والفعلية والمقارنات بالتوازي مع قبول المحاسبة الممسوكة أثناء المراجعة خلافا للموقف الذي ذهبت إليه أغلب محاكم الأصل في هذا الصدد 16، ذلك أنّ مسك المحاسبة وفق ما يقتصيه القانون لا يلزم إدارة الجباية باعتمادها باعتبار أنّها لا تستمد حجّيتها من التنصيصات الواردة بها فقط وإنّما من الوثائق التي تدعم تلك التنصيصات، فمتى تضمّنت المحاسبة إخلالات في مضمونها رغم قبولها من جهة الشكل أو كانت تفتقد لما يدعمها من وثائق ضرورية وفواتير جاز للإدارة اعتماد القرائن القانونية والفعلية المتوفّرة لدى مصالحها للتأكد من مدى صحة المحاسبة من ناحية واستكمال عناصر المراجعة الجبائية من ناحية أخرى17.
كما لم يفوّت القاضي الإداري فرصة تكريس مبدإ واقعية القانون الجبائي كلما سنحت له معطيات ومظروفات الملف وملابساته وذلك بغاية تمكين إدارة الجباية من إخضاع بعض الوضعيات الواقعية للأداء المستوجب بصرف النظر عن الوضع القانوني الظاهر، وذلك من خلال إعادة تكييفه للوضعيات الصورية أو غير الحقيقية تكييفا مناسبا وواقعيا بما يمكّن من استخلاص الأداء المستوجب ومن التصدي لكل أشكال التهرب أو الإعفاء من الأداء.
وفي هذا الإطار بالذات، أوضح القاضي الإداري أنّه، ولئن كان عقار النزاع يكتسي صبغة فلاحية من الناحية القانونية، فقد ثبت من تقرير الاختبار أنّه أصبح مخصّصا للبناء ويقع بمنطقة سكنية يتمّ تداول أسعارها على أساس أنّها صالحة للسكن وبأثمان تنطبق على العقارات ذات الصبغة السكنية لا الفلاحية، وعليه، وبالنظر إلى أنّ القانون الجبائــــي، بحكم طبيعته الواقعية، يتسلّط على الأنشطة الفعلية ويتعقّب المداخيل الحقيقية، فإنّ عدم احترام المطالب بالأداء للطبيعة الفلاحية للعقار وتحويلها إلى منطقة سكنية يخوّل لإدارة الجباية توظيف الأداء عليه بناء على الصبغة الفعلية للعقار 18.
وفي موقع آخر، تمّ التأكيد على أنّ القانون الجبائي بحكم طبيعته الواقعية لا يتقيّد بالشكل القانوني للذات المعنوية وإنّما يتسلّط على الأنشطة الفعلية والمداخيل الحقيقة، وعليه فإنّ ثبوت ممارسة إحدى الجمعيات لنشاط تجاري لغاية الكسب وتحقيق الربح أو ثبوت منافستها للمؤسّسات الاقتصادية المتعاملة في السوق بواسطة نفس الأساليب والوسائل، يجعلها خاضعة للأداء إلا إذا أثبتت أنّها لا تتولى توزيع العائدات والمداخيل التي تتحصّل عليها على مسيّريها أو أعضائها بأيّ عنوان كان وقدّمت الدليل على أنّ تلك الأعمال ليس من شأنها منافسة المؤسّسات الاقتصادية المتواجدة بالسوق وإنما هي تكتسي طابعا ثانويا يهدف إلى خدمة نشاطها الأصلي لا غير 19 .
وفي المقابل، لم يتردّد القاضي الإداري في التصدي لكل عمليات التوظيف التي ترد عليه والمنطوية على حرمان غير مبرّر للمطالب بالأداء من الانتفاع بامتيازات جبائية أو أنظمة تفاضلية تشجّع على الاستثمار لمجرّد إخلال المطالب بالأداء ببعض الإجراءات والشكليات المرافقة للعملية الاستثمارية محلّ الانتفاع، وذلك كلما تبيّن له من أوراق الملف أنّ الغاية من تلك الإجراءات والشكليات المرافقة قد تحقّقت على أرض الواقع من خلال ثبوت رصد الأموال موضوع الاستثمار المزمع إنجازه وتخصيصها قسرا للمشروع وإنجاز هذا الأخير على أرض الواقع 20 وهو ما يعدّ تحفيزا للمطالب بالأداء على الاستثمار في الأعمال والمشاريع، فضلا عن مثل هذا التوجه الواقعي يعدّ دافعا له للقيام بواجباته الجبائيـــة بكل تلقائية وأمـان، وهي صورة يبرز فيها القاضي الإداري حاميا للمال العام بامتياز ومتيقّظا في الآن ذاته لكل أشكال التهرب الجبائي، ذلك أنّ عدم التصريح بالمداخيل أو الأرباح المكتتبة أو الأرباح المعاد استثمارها في صلب المؤسّسة لا يكون مدعاة لحرمان المطالب بالضريبة من الامتياز الجبائي المنصوص عليه قانونا إلا متى أقام الدليل على حصول ضرر لخزينة الدولة أو عدم تحقيق الاستثمارات المقررة 21.
وفي نفس الإطار انتهى القاضي الإداري المنتصب تعقيبيا في المادة الجبائية إلى أنّه ولئن جاز في بعض الحالات الاستثنائية اعتبار تخلّي المؤسّسات الاقتصادية عن ديونها أو منحها لقروض دون فوائض أو تقديمها لمساعدات مجانية أو لتسبقات مالية لمؤسّسات أخرى من التصرفات العادية وذلك في صورة وجود روابط قانونية أو علاقات مالية أو اقتصادية وثيقة بين المؤسّسات المتحملة للعبء والمؤسّسة المستفيدة منه تقتضي التعاون في ما بينها لمواجهة ظروف مالية واقتصادية صعبة، إلا أنّه يشترط لقبول تلك التصرفات أن تكون مبرّرة بوجود منفعة اقتصادية أو مالية ثابتة ومباشرة للمؤسّسة المانحة ينتفي معها الإضرار بمصالحها وأن تهدف إلى تلبية حاجة فعلية وأكيدة للشركة المستفيدة منها
دون أن يؤول ذلك بأي شكل من أشكال إلى التهرب الجبائي أو يؤدّي إلى الإخلال بقواعد المنافسة 22.
---------
1 - ألقيت هذه المداخلة في إطار الندوة العلمية المشتركة بين الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد واتحاد القضاة الإداريين حول» دور القضاء الإداري في مكافحة الفساد» والمنتظمة بتونس العاصمة بتاريخ 24 ماي 2016.
2 - محمد العيادي ، قاضي إداري، النائب الأول لرئيس مجلس المنافسة وعضو مجلس الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد.
3 - قرار تعقيبي جبائي صادر بتاريخ 3 نوفمبر 2008 في القضية عدد 37894
4 - قرار تعقيبي جبائي صادر بتاريخ 30 ماي 2009 في القضية عدد 38811.
5 - قرار تعقيبي جبائي عدد 311501 بتاريخ 15 جويلية 2011
6 - قرار تعقيبي جبائي صادر في القضية عدد 310436 بتاريخ 16 أفريل 2011.
- وفي نفس الصدد يراجع القرار التعقيبي الجبائي عدد 37343 بتاريخ 19 نوفمبر 2007 وكذلك القرار التعقيبي الصادر في القضية عدد 312797 بتاريخ 22 جانفي2015.
7 - القرار التعقيبي الصادر في القضية عدد 312123 بتاريخ 22 أكتوبر 2015.
8 - قرار تعقيبي جبائي صادر بتاريخ 30 ماي 2009 في القضية عدد 38811.
9 - قرار تعقيبي جبائي صادر في القضية 39209 بتاريخ 13 أفريل 2009.
10 - قرار تعقيبي جبائي صادر تحت عدد 310847 بتاريخ 31 ديسمبر 2010.
11 - قرار تعقيبي جبائي صادر تحت عدد 38549 بتاريخ 27 أفريل 2009.
12 - (قرار تعقيبي جبائي صادر تحت عدد 311426 بتاريخ 21 فيفري 2011.
13 - قرار تعقيبي جبائي عدد 310863 صادر بتاريخ 27 ديسمبر 2010.
14 - قرار تعقيبي جبائي صادر تحت عدد 311126 بتاريخ 21 فيفري 2011.
15 - قرار تعقيبي جبائي صادر تحت عدد 310863 بتاريخ 27 ديسمبر 2010 وقرار تعقيبي جبائي صادر تحت عدد 310706 بتاريخ 27 ديسمبر 2010.
16 - قرار تعقيبي جبائي صادر تحت عدد 311785 بتاريخ 17 أكتوبر 2011.
17 - قرار تعقيبي صادر في القضية عدد 312876 بتاريخ 11 ماي 2015.
18 - قرار تعقيبي جبائي صادر في القضية عدد 36066 بتاريخ 30 أفريل 2007.
- يراجع في نفس السياق القرار التعقيبي الصادر في القضية عدد 312267 بتاريخ 14 جويلية 2014.
19 - قرار تعقيبي جبائي صادر في القضية عدد 37062 بتاريخ 20 أكتوبر 2008.
20 - القرار التعقيبي الصادر في القضية عدد 36910 بتاريخ 31 ديسمبر 2007.
- يراجع كذلك القرار التعقيبي الصادر في القضية عدد 39042 بتاريخ 1 فيفري 2010.
21 - القرار التعقيبي الصادر في القضية عدد 312067 بتاريخ 27 جانفي 2014.
22 - القرار التعقيبي الصادر في القضية عدد 311517 بتاريخ 15 ديسمبر 2014.
- يراجع كذلك القرار التعقيبى الصادر في القضية عدد 311659 بتاريخ 31 ديسمبر 2014.