تفاعلا مع مقال الأستاذ حمادي الرديسي حول «ما بعد الحقيقة - المغرب 10 جانفي 2017» ليس بعد الحقيقة إلا الكذب

بقلم: مسعود الرمضاني
لنبدأ على سبيل الدعابة مع الكاتب الساخر جورج برنار شو الذي يقول : « هذا الشخص يجهل كل شيء ويوهم الناس انه يعلم كل شيء وهذا ما ينبئ بان له مستقبلا سياسيا واعد» ومع ذلك فليست السياسة كلها ادعاءا وكذبا.

بل وقد يكون الكذب في السياسة اليوم اصعب بكثير مما كان عليه في الماضي ، فقد تحررت وسائل التواصل من كل قيد وأصبح لكل شخص إمكانية التحري والبحث عن الحقيقة وكشفها مقالا وخاطرة وصورة ، بل وفي العديد من أصقاع العالم تغيّرت المعادلة وانقلبت رأسا على عقب:من قبل كان» الأخ الأكبر» هو الذي يراقب شعبه ويعطيه الجرعة الإعلامية اللازمة لتجهيله والصورة المثالية التي يريد تقديمها من اجل المحافظة على تفوقه هو، مثلما كتبه جورج ارويل في روايته الشهيرة 1984، اليوم أصبح للشعب إمكانية مراقبة الاخ الاكبر وترصد أخطائه وكشف أكاذيبه وانزلاقا ته وإنزاله من مرتبة الآلهة التي يريد اعتلاءها .

لكن الإشكالية اليوم هي في تحديد الحقيقة ، فان يدرك الشعب كذب الزعماء لا يعني بالضرورة «ان تكون له فكرة عما تكون عليه الحقيقة « مثلما أشار الى ذلك الكاتب «ولتر رستون». وليس معنى هذا ان الحقيقة معقدة ، بل لان اننا وصلنا الى مستوى من التسطيح والانطباعية واختلاف الرؤى الى درجة ان لم تعد للحقيقة أهمية.

وحسب المجلة البريطانية ذائعة الصيت «الايكونوميست» ، فإننا نعيش زمن «ما بعد الحقيقة» محذرة ان ذلك يمثل خطرا زاحفا على الديمقراطية والحداثة لأنها قد تأتي بزعماء قريبين من الفاشية . وقد أكدت المجلة إننا تحولنا من زمن الحقائق إلى زمن عدم ايلاء الحقائق أيّة قيمة، وأكدت ان صفحات التواصل الاجتماعي تمنح مجموعة ما الفرصة لتقوية معتقداتهم وأفكارهم وانطباعاتهم الشخصية وتؤسس لحقائق فردية أو ضمن مجموعة ضيّقة وتغلق الباب أمام معلومات مضادة أو مخالفة.

خذ مثلا مواضيع تناقشها النخب في تونس ، ابتداء من تنفيذ عقوبة الاعدام في حق الارهابيين الى كيفية مجابهة القضايا الاجتماعية مرورا بخوصصة القطاعات العامة ووصولا الى العدالة الانتقالية وستجد عبر صفحات الفيس بوك مجموعة «حقائق» تناقض كل واحدة الأخرى ، يصيغها المدوّن أو الصحفي أو السياسي حسب اعتقاده وموقعه الاجتماعي وأفكاره المسبقة وما يمكن ان ينمّقه كي يقارب الحقيقة وبالتالي قابليتها للإقناع. والقضية ان ليس هناك تحليل معمّق ولا رؤية واضحة لدى الرأي العام .

ذلك في نظر «الايكونوميست» ما أوصل دونالد ترمب الى السلطة: أنصاف حقائق تنشر على التويتر وادعاءات قابلة للتصديق ، لا يهتم المواطن، المسكون بالخوف من كل ماهو حوله(الهجرة ، التطرف الاسلامي..)، بالبحث فيها، على شاكلة تزوير وثيقة ميلاد باراك اوباما أو اعتبار هذا الأخير مؤسس الدولة الإسلامية في العراق والشام...

نفس الشيء يقال عن خروج بريطانيا من اوروبا: لقد ادعى مؤيدو الخروج ان الاتحاد الاوروبي سيجبر بريطانيا على دفع 350 مليون جنيه استرليني أسبوعيا نصيب مشاركتها في الاتحاد، وهو غير دقيق ويمكن إثبات عدم صحته وكذا يقال على ادعاء ترامب ان هيلاري كلنتون تدعم شبكة لدعارة الأطفال، لكن من يهتم بالبحث والكشف؟ المهم انه قابل للتصديق لدى الرأي العام وأنه يؤتي أكله في اللحظة تلك وأن نوايا التصويت تتغيّر.

لكن اللغة ومفرداتها ليست بريئة ولا محايدة ، وهي دائما انعكاسا لما يراد تسويقه ، وحتى عبارة «ما بعد الحقيقة» لا تخرج عن هذا السياق، فهي توحي بان العالم كان قبل هذا التاريخ يعيش ضمن حقائق سرمدية ومبادئ ثابتة لا تقبل الشك . يقول الكاتب الصحفي الشهير روبرت فيسك : «نحن لا نعيش في عالم ما بعد الحقيقة « بل نحن نغرق أكثر في الكذب ، لا نعيش هذا العالم لا في الشرق الاوسط ولا في الغرب ولا حتى في روسيا، نحن نعاصر عالما مليئا بالأكاذيب ولطالما عشنا في هذا العالم بأكاذيبه المختلفة».

القضية ليست في تطويع المشاعر كما قال أكسفورد والايكونوميست و نقله الأستاذ الرديسي ، بل في تطويع الحقيقة وإخفاء جوانبها لتتفق مع الرسالة المراد تبليغها : كيف نلوم ترامب على الكذب ، بينما يواصل الإعلام الغربي قلب الحقائق وتشويهها باختيار مفردات مبهمة ، فالإعلام هو ، يقول روبرت فيسك، الذي يسمي الحائط العنصري الذي بنته إسرائيل «السياج الأمني» والمستوطنات غير الشرعية «المناطق المتنازعة» .

وبعد كل هذا: هل كانت تقود العالم حقائق ثابتة قبل بروز «عصر ما بعد الحقيقة»، ولا نتحدث هنا فقط عن نزاع الشرق الأوسط ولا عن الحروب التي وقع خوضها في العراق على خلفية «أسلحة الدمار الشامل» غير الموجودة أصلا ولا عن الحروب الأخرى في أفغانستان وليبيا وسوريا ؟ وفي مستوى اقتصادي واجتماعي ،هل مبادئ ريغان وتاتشر في العولمة والرخاء الذي سيعم العالم بعد تحرير الاقتصاد من كل قيوده حقائق ثابتة؟

صحيح أن ترامب، المثال المختار للتدليل على عصر ما بعد الحقيقة يجمع بين «صفات قد تبدو متناقضة» ويعكس مزاج العصر: حدة الخطاب وجذريته من ناحية والبساطة والسذاجة في فهم تعقيدات الواقع و السياسة الدولية من ناحية أخرى، وصحيح كذلك ان تغريدة في الفيس بوك أو التويتر قادرة على تقديم «حقيقة خاصة ما» وأن الشعب الكريم لا يكلف نفسه كثيرا من الجهد للتثبت والتدقيق، لكن هناك حقائق موضوعية كثيرة غير قابلة للدحر: ان السياسة الدولية لم تؤسس على المبادئ وعلى منطق السلم والعدل وان السياسات الاقتصادية والاجتماعية المتبعة لن تزيد الا في تعميق الأزمات : أزمة الفوارق الاجتماعية وأزمة التفاوت بين الشمال والجنوب و أزمة الرأسمالية نفسها. ..

في تعليقها على لقاء دافوس الأخير الذي يجمع سنويا أغنياء العالم مع صنّاع القرار في الغرب قالت صحيفة «النيويورك تايمز»: «هؤلاء لم يفهموا أن الغضب من مخلفات العولمة ونتائجها الكارثية على الطبقات الفقيرة هي التي جاءت بترامب الى السلطة وأخرجت بريطانيا من أوروبا وتهدد مستقبل التجارة العالمية.» تلك هي حقائق ثابتة أن لم ننتبه إليها فإنها تهدد مستقبل الإنسانية بأسرها.

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115