انطلاق جلسات الاستماع لضحايا الانتهاكات في تونس: الحقّ أولى أن يُتّبع...

ليس أفضل من نيلسون مانديلا من يتحدث عن الحق ورد اعتبار ضحايا القمع وليس أفضل من قوله «أنا لست حرا حقا إذا أخذت حرية شخص آخر. المظلوم والظالم على حد سواء قد جردوا من إنسانيتهم». ليجيب عن الانحراف الخطير الذي تزامن مع أولى جلسات الاستماع

لضحايا الانتهاكات في تونس. فعوضا عن التمعن في الشهادات والفظائع التي كشفت وهول ما عاشه الضحايا، ترك كل هذا جانبا ليقع الحديث مرة أخرى عن شخصية رئيسة الهيئة سهام بن سدرين وجعل الحدث مقتصرا عليها. ولكأنّ إنصاف الضحايا مرتهن بالأهواء والميولات، وليس بالحقّ الإنساني في الإنصاف.

العدالة عمياء وهذا لا يضرها لكن ما يضرها هو أن تبتر إحدى قدميها التي تقف عليهما، إنصاف المظلوم ووضع حدا للظالم وكف أذاه عن الآخرين. وبتر القدم له أشكال عدة، كان تلجم أفواه الضحايا، أو يشكك في نواياهم وأهدافهم وانتمائهم السياسي والديني، او ان يقتصر الأمر على تعويض الضحايا ماليا دون رد الاعتبار لهم او اعتذار الجناة عمّا اقترفوه ودون كشف ما حملته الدهاليز من مظالم وتجاوزات لا احد يعلم كيف كانت تتم.

هذه النقاط هي فلسفة العدالة الانتقالية، وهي ليست الاّ مسارا يبحث عن كشف الحقيقة ورد الاعتبار والمحاسبة ليست من منظور قانون جزائي وبعدها المصالحة، وهي مقاربة تهدف لتحقيق العدل في مرحلة الانتقال من القمع والدكتاتورية الى الحرية والديمقراطية. قمع أجهزة الدولة المقنن مثل انتهاكاتها لحق مواطنيها. هؤلاء هم الضحايا الذين تقدّم لهم العدالة الانتقالية اعترافاً بحقهم وتجبر ضررهم معنويا قبل ان يكون ماديا.

ولأنّ العدالة تقف على قدمين لا يكفي إنصاف الضحايا، حتى وان استكثر البعض هذا عليهم، بل يجب معرفة كيف كانت ترتكب الانتهاكات الممنهجة لحقوق الإنسان، فهي لم تنل من ضحاياها فقط وإنما منّا جميعا كمجتمع، بل على المجتمع ككلّ. مجتمع فقد ثقته في أفراده، مجتمع انقسم على نفسه وجعل من أبناء طوائف ونحل، يبرر بعضه انتهاك حق إنساني طالما لم يكن قد تعرض إليه، او لان من تعرض اليه ليس من فريقه وطائفته.

وقف الانتهاكات أو على الأقل سلبها غطاء شرعية الدولة والطابع الممنهج لها، وما مسار العدالة الانتقالية إلاّ الطريق الوحيد لنصل الى دولة تضمن الحقوق الإنسانية لمواطنيها، ويعتبر الإيفاء بها وحمايتها واجبها الذي يقضي ان تعرف كيف وقعت الانتهاكات لتعرف كيف تصلح المؤسّسات سواء تلك التي ارتكبت الانتهاك او عجزت عن منع حدوثه.

هذه هي فلسفة العدالة، التي للأسف تتعالى الأصوات لوأدها، وتعتبر ان المسار لا قيمة له لان على رأس هيئة الحقيقة والكرامة، سهام بن سدرين، وما عليها من مؤاخذات وتحفظات، يستغلها من لا يؤمن بالعدالة لينسف المسار، ويجعل الخطاب يترك جوهر الأمور ويتوقف على سفاسفه. وكأنّ الطعن فيها كافيا للطعن في مسار العدالة الانتقالية برمته.

طعن يراد منه ان يخلق حالة من الرفض للمسار وإجهاضه عن وعي ودونه، فشهادات الضحايا التي عرّت الأنظمة التي تداولت على حكم تونس منذ 1956 الى 2013، كالتي تقدم بها سامي براهم وجلبار نقاش. تضعنا أمام مسؤوليتنا الأخلاقية جميعا دون استثناء. شهادات ترفعت عن التشفي أو طلب الثأر لتسأل العدالة، بما هي اعتراف بالانتهاك واعتذار عنه وتحمل لمسؤوليته.

مسؤولية يتحملها المجتمع كما الدولة وأجهزتها، مجتمع يقف بعضه اليوم ليبرر حالة اللا عدل ويرفض ان ينصف ضحايا نكلّ بهم وتم امتهان إنسانيتهم، رفض سببه عدم الرضا على الأشخاص وكأن الحق لا يتّبع إلا متى رضينا على الشخص. وكأن الضحايا لم يكفهم ما لقوه في عهود الاستبداد والقمع لنقمع حقهم وحقنا في معرفة ما كان يحدث في الأقبية ودهاليز أجهزة الدولة.

فما كان يحدث يتجاوز قدرتنا على التخيل، لأدوات وأساليب تعذيب لا تفقد الضحية إنسانيته بقدر ما تفقد الجاني، ليقف كلاهما منزوع الإنسانية، إنسانية رحلة استعادتها تتجاوز شخصا او هيكلا، بل هي رحلة مجتمع بات مطالبا اليوم ان يتصالح مع ماضيه وان يعلم حجم الهول الذي كان يحدث قبل الثورة التي تكالب البعض عليها.

ثورة لولاها لما كانت أصوات لترتفع اليوم لتلعن كل من آمن بها وامن بالحرية والكرامة الإنسانية، وتستكثر على الضحايا حقهم في الصراخ عاليا «لقد امتهنا وسلبنا إنسانيتنا» وتستكثر على الاجيال القادمة ان تقي نفسها مخاطر تكرار الانتهاكات.
ان الحق اولى ان يتبع وليست سهام بن سدرين، والحق هو ان للأنظمة السياسية في تونس منذ الاستقلال ضحايا امتهنت كرامتهم وسلبت حريتهم، فرجاء لا تجعلوهم ضحايا مرتين، ورجاء لا تورثوا الأجيال القادمة الكراهية والأحقاد.

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115