من 2014 إلى 2024: تسجيل 3845 حالة ومحاولة انتحار: الانتحار ظاهرة مركبة وتتقاطع فيها الدوافع.. والأرقام المعلنة لا تعكس الحقيقة وتخفي واقعا أكثر سوءا

تتزايد ظاهرة الانتحار ومحاولات الانتحار بشكل لافت في السنوات الأخيرة،

ظاهرة لم تعد تمس فئة عمرية معينة بل باتت تخترق كل الجهات وكل الطبقات والفئات الاجتماعية والعمرية، مما يعكس أزمة نفسية واجتماعية متفاقمة تتطلب تدخلاً عاجلاً خاصة من الأطراف المعنية أي العائلة والحكومة، فالفعل الاحتجاجي الانتحاري لئن اختلفت أسبابه أو شكله فإن الهدف منه وفق العديد من الفاعلين الاجتماعيين هو توجيه رسائل، الأرقام المسجلة باتت مقلقة سيما وأن حالات "إضرام النار في الجسد " قد عادت إلى الواجهة في المدة الأخيرة بالرغم من أن هذه الظاهرة ليست بالجديدة وتشهد البلاد بين الحين والأخر حالات ومحاولات انتحار عبر إضرام النار في الجسد، والأسباب والدوافع تختلف من حالة إلى أخرى، فالجسد هو الوسيلة للتعبير والاحتجاج، وبحسب المنتدى التونسي للحقوق الاجتماعية والاقتصادية فإن الشباب يمثل الفئة الأكثر عرضة للانتحار وهو ما يعكس أزمة نفسية واجتماعية تتطلب اهتماما عاجلا.
تختلف دوافع الإقدام على الانتحار وهي مركبة بين أزمة ثقة وغياب الحوار داخل الأسرة والنقص في الإحاطة والتربية بسبب تردى الأوضاع الاجتماعية والفقر والتفكك الأسرى والاكتئاب وفقدان الأمل وغيرها من الدوافع، كما تعددت الوسائل المستعملة للقيام بالعملية بين الانتحار شنقا والذي يأتي في المرتبة الأولى ثم الانتحار حرقا فالانتحار عبر تناول الأدوية ومبيدات الحشرات والإلقاء بنفسه في البئر أو من مكان مرتفع أو تحت القطار، حالات ومحاولات الانتحار تشمل كل الجهات والولايات ولكن بصفة متفاوته، والولايات التي سجلت أكبر عدد من حالات ومحاولات الانتحار هي القيروان وبنزرت وقفصة والقصرين ، واغلبها تحصل في القرى والأرياف.
ارتفاع معدل حالات الانتحار
شهدت تونس ارتفاعاً ملحوظاً في عدد حالات ومحاولات الانتحار بين صفوف الأطفال والمراهقين وكبار السن خلال السنوات العشر الماضية، وقد ارتفع معدل حالات الانتحار من 1.8 على 100000 ألف ساكن قبل الثورة إلى 3.15 على 100000 ألف ساكن بعد الثورة، ووفق إحصائيات المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية فقد بلغ عدد حالات الانتحار ومحاولات الانتحار 203 حالة خلال سنة 2014 مقابل 549 حالة في سنة 2015 أي بزيادة بنسبة 170 %، وأعلى عدد تمّ تسجيله سنة 2016 بـ908 حالة ومحاولة انتحار وتصدّرت ولاية القيروان القائمة بـ 120 حالة، فيما بلغ العدد سنة 2017، 626 حالة و467 حالة سنة 2018 و268 حالة سنة 2019 و235 حالة سنة 2020 و181 حالة سنة 2021 و128 حالة سنة 2022 و147 حالة سنة 2023 و133 حالة سنة 2024، لتكون حصيلة حالات ومحاولات الانتحار 3845 حالة من سنة 2014 إلى سنة 2024 . وحسب تقرير المنتدى لشهر جانفي 2025 فقد تمّ رصد 12 حالة انتحار ومحاولة انتحار ، انتهت في 8 منها بالوفاة، وتمّ إسعاف البقية.
حرق النفس كشكل احتجاجي
واعتمد القائمين بالفعل الانتحاري في 6 من محاولات الانتحار على حرق النفس كشكل احتجاجي على العائلة أو السلطة الأمنية أو الوضع الاجتماعي والاقتصادي، وتناول 3 تلميذات أدوية كمحاولة للانتحار وقام 3 آخرين بشنق أنفسهم وفق التقرير. ومثّل التلاميذ نصف العدد الذي أقدم على الانتحار خلال شهر جانفي، في حين بلغ عدد الشباب 4 وانتحرت امرأة في سنّ الأربعين. وبلغ عدد الذكور 7 في حين كان عدد الإناث 5، واحتضن الفضاء الخاص، المسكن، 8 من أحداث الانتحار في حين كانت المؤسسة التربوية إطارا لحالتي انتحار وسجل الفضاء العام الحالتين المتبقيتين. وشهدت ولاية سيدي بوزيد 4 من حالات ومحاولات الانتحار يليها القيروان ب 3 حالات انتحار وشهدت تونس العاصمة حالتا انتحار كما سُجّلت حالة انتحار في كل من بن عروس والكاف والقصرين.
ظاهرة الانتحار مركبة ولا تفسر بأسباب محددة
وفق ما أكده رمضان بن عمر الناطق الرسمي باسم المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية في تصريح لـ"المغرب" فإن ظاهرة الانتحار هي ظاهرة مركبة ولا يمكن تفسيرها بأسباب محددة بالنظر إلى تقاطع الأسباب منها الاجتماعية والنفسية والعائلية وغيرها من الأسباب، مشيرا إلى أنه لا يمكن وصم ظاهرة الانتحار في جهة بعينها، باعتبار أن الظاهرة أصبحت تخترق كل الجهات وكل الطبقات والفئات الاجتماعية لكن أشكال الفعل الانتحاري تختلف وتتأطر بالسياق العام مثل ظاهرة الانتحار الاحتجاجي حرقا والتي تستمد جذورها من ظاهرة انتحار البوعزيزي ، حيث يتحول الجسد إلى شكل من أشكال التعبير الاحتجاجي، قائلا "إن ظاهرة الانتحار حرقا هي أحيانا نتيجة وجود ضغط كبير على المستوى السياسي أو الاقتصادي أو الاجتماعي ويتحول الجسد إلى شكل من أشكال الاحتجاج ربما على العائلة أو على المحيط القريب أو على مؤسسات الدولة وألا ضدّ من يعتقد أن قيام بعملية الانتحار هي شكل من أشكال جلب الانتباه وربما دخول التاريخ أو أن يكون عبرة، وهذه الظاهرة كذلك بالنسبة للأطفال تتجاوز أحيان 50 بالمائة عند هذه الفئة وهي ظاهرة تستوجب العديد من الدراسات والتحاليل، فهذه الفئة تشعر بالإهمال وعدم الإنصاف وانعدام الحلم وانعدام الثقة واليقين في المستقبل وسط التكبل بضغوطات عائلية أو نفسية أو على المستوى الدراسي ربما أحيانا تتجاوز إمكانياتهم ويلجئون بذلك إلى مثل هذه الأشكال."
أشكال في الانتحار تدخل في خانة التقليد
بحسب رمضان بن عمر فإنه للأسف الدولة لا تقدم معطيات كمية حول هذه الظاهرة لفهم التحولات والأسباب وكأن الدولة في هذه الحالة خائفة من الأرقام، قائلا "نريد دائما الابتعاد عن التأويل المؤامراتي في علاقة بأشكال الانتحار لأنه يجب أن نفهم أكثر هذه الظاهرة حتى يتم معالجتها واستباقها والإشكالية تبقى بالنسبة للمنتدى في العمل الاستباقي عندما تقع محاولات انتحار من الإحاطة النفسية والاجتماعية لمحيط من قام بعملية الانتحار لأن هناك أشكال في الانتحار تدخل في خانة التقليد خاصة عند الفئات الصغيرة كما ينبه المنتدى من مسألة التعاطي الإعلامي وأحيانا محاولة تقديم "المنتحر" كضحية وإلا كبطل وبذلك فإن التعاطي الإعلامي لهذه الظاهرة يجب أن يكون بصفة حذرة وكنا نتمنى من وزارة الصحة أن تصدر دليلا كاملا حول كيفية التعامل مع هذه الظاهرة".
"أرقام سوداء"
وأضاف بن عمر أن الأرقام التي يصدرها المنتدى تبقى دائما عينة لا تكشف عن الأرقام الحقيقية مثلا تمّ خلال شهر جانفي تسجيل 12 حالة انتحار 50 بالمائة منها حرقا و50 بالمائة منها عند الأطفال سنهم أقل من 13 سنة وهذا الرقم يثير الانتباه، ليشدد على أن أرقام المنتدى تبقى دائما نسبية ولا تعكس الحقيقية والأرقام الحقيقية موجودة عند مؤسسات الدولة والمنتدى يطلق عليها الأرقام السوداء خاصة في محاولات الانتحار لأن العائلة أو الأجهزة الطبية يتكتمون عن الخبر وإلا هناك أحيانا محاولات انتحار يتم تسجيلها كمحاولة عنف.

9 حالات "إضرام النار في الجسد"
منذ بداية السنة الجارية إلى تاريخ 4 مارس 2025، شهدت البلاد 9 حالات "إضرام النار في الجسد"، حالات تختلف في الجنس والسن، أولى الحالات تم تسجيلها في بداية السنة الجارية وبالتحديد يوم 4 جانفي 2025، حيث أضرم شاب يبلغ من العمر 30 سنة النار في جسده في حي المنشية من ولاية القيروان، ثاني حالة يتم تسجيلها بتاريخ 20 جانفي 2025 في منطقة الشوايحية من ولاية القيروان بعد إقدام شاب على إضرام النار في جسده، ثالث حالة وقعت بتاريخ 24 جانفي 2025، حيث أقدم شخصا على إضرام النار في جسده بجهة لافايات بتونس العاصمة، وتوجّه مُباشرة نحو أحد أعوان الأمن فتم إطلاق النار عليه من عون ثانٍ حماية لزميله الذي أصيب بحرُوق نقل على إثرها إلى المستشفى، وفق ما أعلنته وزارة الداخلية في بلاغ لها، رابع حالة وقعت بتاريخ 28 جانفي 2025 ، حيث أقدمت امرأة على حرق نفسها قرب مقر معتمدية القيروان الشمالية للمطالبة بتسوية وضعيتها الاجتماعية، مما تسبب لها في حروق.
وفي النصف الأول من شهر فيفري 2025، فقد تمّ تسجيل 4 حالات، أولى الحالات وقعت بتاريخ غرة فيفري 2025، إذ أقدمت تلميذة الـ13 سنة على إضرام النار في جسدها في سبيطلة من ولاية القصرين، داخل الإعدادية التي تدرس فيها، ثاني حالة وقعت يوم 3 فيفري 2025 بإضرام كهل النار في جسده أمام باب المحكمة الابتدائية في صفاقس، ثالث حالة وقعت في حي الرياض من ولاية سوسة، إذ أقدم شاب عشريني على إضرام النار في جسده يوم 6 فيفري 2025 أمام مركز الأمن الوطني حي الرياض بسوسة، 4 حالة وقعت بتاريخ 7 فيفري 2025، إذ أقدم كهل يبلغ من العمر 48 سنة على سكب مادة حارقة على جسده وإضرام النار فيه أمام أحد مستشفيات باب سعدون، مما خلّف له حروقا من الدرجة الثالثة . كما أقدم كهل خمسيني على إضرام النار بجسده أمام المدرسة الإعدادية بسيدي الجديدي التابعة لمعتمدية الحمامات من ولاية نابل يوم 4 مارس 2025 ، وتعود أسباب إقدامه على إضرام النار في جسده إلى اتخاذ قرار بنقله للعمل في مؤسسة تربوية أخرى على اثر خلافات مع مديرة المؤسسة وعدد من الأولياء.
الأرقام المعلنة عن عدد حالات ومحاولات الانتحار لا تعكس الواقع وتخفي أرقاما واقعية أكثر سوءا، ولا يتم الكشف عن كل الحالات المسجلة سواء من قبل مؤسسات الدولة أو المحيط العائلي لكن تبقى حتى الأرقام التي يعلنها المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية في تقاريره الشهرية مقلقة وتستدعي بالضرورة تشخيص الظاهرة وإيجاد الحلول للحدّ منها.

 

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115