سوف نعود في مناسبة قادمة إلى الشروط التي ينبغي توفيرها لكسب الحرب على الإرهاب مع العلم بأننا كسبنا في هذه الحرب معارك عديدة بعضها حاسم، كملحمة بن قردان، ولكن العدو مازال قادرا على إلحاق الأذى بالبلاد وبأمنها... ولكن الامتحان الأهم اليوم في نظرنا هو امتحان الحوض المنجمي ومدى قدرة الحكومة الجديدة ورئيسها على ابتكار «الحلول الاستثنائية» التي بشّر بها يوسف الشاهد أمام مجلس نواب الشعب دون الإفصاح عنها...
لا نريد أن نذكّر بوضع الحوض المنجمي وبما يسميه بعضهم بنقمة الفسفاط... نريد أن ننطلق من الوضع الحالي دون نسيان تراكمات الماضي ولكن الغوص في الماضي وفي تلابيبه قد يحجب عنّا الرؤية ويمنعنا من إيجاد حلول للتجاوز...
لقد مثّل استخراج الفسفاط من جهة قفصة وتحويله كيميائيا في جهتي صفاقس وقابس أحد الشرايين الأساسية للاقتصاد الوطني منذ عقود طويلة... وحتى البترول والغاز لم يتمكنا من منافسة هذه الثروة بصفة جدية نظرا لأننا أصبحنا منذ حوالي ربع قرن مستوردين صافين لهذه الطاقة...
وغني عن القول بأن عملية استخراج الفسفاط وتصنيعه قد أضرت أيما إضرار بالبيئة في هذه الولايات الثلاث ولكن الضرر الأكبر حصل بولاية قفصة وبالمعتمديات الأربع لإنتاج الفسفاط (المتلوي والمظيلة وأم العرائس والرديف) لأن الفسفاط في منطقة الحوض المنجمي هو الصناعة الوحيدة على عكس ما هو موجود بصفاقس وبدرجة أقل بقابس مما جعل تبعية الجهة لهذا النشاط الاستخراجي تبعية شبه مطلقة.. تبعية أفسدت الإمكانيات الفلاحية المتواضعة هناك كما أن الدولة لم تسع بصفة جدية إلى تنويع النشاط الاقتصادي بولاية قفصة مما جعل «الكبانية» كما يقول أهالي قفصة وجلّ التونسيين كذلك هي الأب والأم والمشغل والممول شبه الوحيد طيلة عقود من الزمن...
ولكن ومنذ أكثر من عقد من الزمن لم يعد بإمكان «الكبانية» (شركة فسفاط قفصة) أن تقوم بكل هذه الأدوار فانحسر تأثيرها الاقتصادي والاجتماعي المباشر دون أن تعوض الدولة ما فات أهالي الحوض المنجمي...
نتيجة لكل هذا فإن المعطلين والمهمشين في منطقة الحوض المنجمي (نسبة البطالة في ولاية قفصة تفوق 25 %) لم يعودوا قابلين إلا بأحد أمرين: توفير شغل لائق أو تعطيل الإنتاج...
ورغم كل المفاوضات والالتزامات والانتدابات التي حصلت منذ بداية 2011 إلا أن أزمة الحوض المنجمي لم تنفرج بعد.. بل يمكن أن نقول بأن أسنان كل الحكومات المتعاقبة قد تكسّرت على تخوم الحوض المنجمي...
ما العمل؟
نحن نعلم أن الحل ليس سهلا لأنه لو كان كذلك لوجدته الحكومات المتعاقبة.. إننا أمام أزمة معقدة يتداخل فيها الاقتصادي مع الاجتماعي مع البشري في ظل انعدام شبه مطلق لثقة الأهالي في الدولة...
المأمول يعرفه الجميع وهو عودة الإنتاج إلى أقصى طاقته دون تعطل ولو للحظة واحدة وتنمية جدية وعميقة ومتنوعة للجهة بما يسمح لأهاليها بالحد الأدنى من العيش الكريم وباستعادة الأمل...
ولكن ما لا يعلمه أحد إلى الآن هو كيف نحقق هذين الأمرين معا دون أن يكون إنجاز الواحد منهما على حساب الثاني...
وحتى فكرة تخصيص نسبة مائوية من أرباح الفسفاط لتنمية الجهة لا معنى لها الآن دون تمهيد جدي وجيد لحزمة متكاملة تتناسق فيها الحقوق مع الواجبات...
نكرر هنا ما كنا قد قلناه منذ سنة 2014 إبّان احتداد أزمة الفسفاط أنه لا ضير في توفير كل عائدات الفسفاط لا جزء منها فقط لتنمية ولاية قفصة دون أن يعني ذلك توزيع مال دون مقابل عمل إنتاجي فعلي... فنحن لسنا دولة ريعية توفر إعطائيات لرعاياها... وهذا النموذج الريعي الذي قد يحلم به بعضهم لا ولن نقبل به لأنه ضد كل قيم المواطنة والعمل والمساواة...
نحن أمام وضعية استثنائية نحتاج فعلا حلولا غير تقليدية بداية بطريقة المعالجة ذاتها ورأينا كيف أن خطابا «عاديا» لرئيس الحكومة الجديد قد أشعل الحوض المنجمي مرة أخرى...
نعتقد أن الطريقة المثلى تبدأ من تعيين شخصية وطنية كبيرة تحظى بثقة جهة قفصة وبأهم القوى الفاعلة فيها وتكون هذه الشخصية مطلقة الصلاحيات وقراراتها، بعد التشاور مع رئيس الحكومة، ملزمة للدولة ونرى أن تتحول هذه الشخصية إلى قفصة، إن لم تكن قاطنة هناك، بمعية فريق من أعلى موظفي الدولة في كل الوزارات (من المالية والصناعة والتنمية وصولا إلى الثقافة والشباب والرياضة) وأن يبقى هذا الفريق الوقت اللازم للحوار مع كل الأطراف المهيكلة وغير المهيكلة قصد إنجاز عقد تنموي شامل مع الجهة يلزم الدولة وكل أهالي المنطقة، عقد قد يعرض على مجلس نواب الشعب للمصادقة عليه حتى يكتسب صفة الإلزام القانوني لكل مكوناته مضمونه الأساسي هو ألا يتعطل الإنتاج ولو لحظة واحدة مقابل تخصيص ما يلزم الجهة من مرافق عمومية ومن قدرة تنموية ومن خطط عمرانية مستقبلية كأن تبنى مدينة جديدة غرب مدينة قفصة تؤوي كل سكان الحوض المنجمي حتى لا يعيش عشرات الآلاف من الأهالي مع الفسفاط صباحا مساء بل تصبح منطقة الحوض المنجمي منطقة عمل فقط وتكون هذه المدينة الجديدة منطقة السكن والدراسة والخدمات الاجتماعية والترفيه لسائر الأهالي (للتذكير فقد اقترح هذه الفكرة الزميل مختار بو بكر على هذه الأعمدة بالذات).
ولا يهم هنا أن تعود كل مرابيح استخراج الفسفاط للجهة أو حتى نتجاوزها إن أمكن ذلك فأن تكون ولاية قفصة في المرتبة الأولى وطنيا فذلك لن يخدم إلا تونس في النهاية رغم علمنا بأن البون التنموي شاسع جدا بين الولايات الداخلية والشريط الساحلي من بنزرت إلى صفاقس...
لا شك أن ما قلناه بصفة إجمالية يتطلب التفصيل والتوضيح والتعديل بحسب معطيات الميدان وغني عن القول بأن هذه اللجنة والتي ستسند رئاستها لمِاَ يشبه نائب رئيس الحكومة ستشرك بصفة فعلية كل هياكل الجهة بدءا بالنواب المنتخبين وصولا إلى كل أحياء المعتمديات...
وحتى لا تضطر الحكومة إلى الإذعان لمطالب مماثلة من الجهات المحرومة الأخرى نقترح عليها تكوين أربع عشرة لجنة بهذه المواصفات في كل الولايات ذات الأولوية وأن تتشكل صلب رئاسة الحكومة لجنة عليا للمتابعة والتنسيق ونقول لكل من يخشى على وحدة تونس من النعرات الجهوية أن وحدها استراتيجية إرادية كهذه قادرة على تقوية اللحمة الوطنية وعلى إشعار كل أهالينا بأنهم فعلا أبناء هذا الوطن...
ولو نظرنا إلى مشروع كهذا من الزاوية الاقتصادية المحضة فسوف نرى أنه السبيل الأمثل للإنفاق العمومي الذي ينتج الثروة ويحسن محيط الحياة كما أنه بالإمكان أن نجد تمويلات محلية وأجنبية كثيرة لإنجاز هذه التنمية العميقة والشاملة لكل جهات البلاد المحرومة... وسوف نرى كيف أن إدماج هذه المناطق في قطار تنموي سريع سوف يسرع بدوره من نمو الشريط الساحلي ويمكننا في أجل بضع سنوات من الاقتراب من نمو ذي رقمين...
لا نريد انتصارا لفكرة ما بل نريد أن يشع الأمل في كل البلاد وأن نتخلى جميعا عن أنانيتنا الضيقة وألا نرى في نمو الجار أو الجهة المجاورة ضررا لنا بل فرصة إضافية لتنمية متوازنة وعادلة وأنه من واجب الجميع إعطاء الأولوية المطلقة للمناطق التي تخلف عنها قطار التنمية إذ لا معنى لرفاهية وازدهار يكون فقط محصورا في بعض «كانتونات» المدن الساحلية..
فالازدهار لا معنى له إلا إذا كان متقاسما بين الجميع...