ويمسّ العقول فيذهبها." سألت كليلة والحيرة تبدو في نظراتها: "لقد أفزعتني يا دمنة! أيّ عجز قصدت؟ وأيّ مكروه أردت؟" أجابت دمنة: "إنها قصّة طويلة." أصرّت كليلة: "وقتنا ملك لنا. فأطيلي ما احتجت. ولن تجدي مني إلا آذانا صاغية."
تنهدت دمنة، ثم قالت: "إنّها قصّة حزينة. قصّة بنت غرقت مرّتين. غرقت وأبواها ينظران. وكلّما مدّ أحدهما يده لانتشالها من الغرق، منعه الثاني." سألت كليلة: "لقد قلت إنها قصة. فإذا هي أحجية. أفصحي يا دمنة، وإلاّ فلا فائدة من إصغائي إليك. كيف يغرق الإنسان مرتين؟"
قالت دمنة: "إنها بنت تخاصم والدها. وبدل أن يفترقا بالمعروف وأن يتعاونا على تربية ابنتهما، اختار كل منهما أن يجعل من الخصم عدوا. تولّت الأمّ الحضانة. ولمّا كانت قد كرهت الأب، جعلت من ابنتها وسيلة للانتقام. فأخذت تنهش لحمه حيا. عظّمت من عيوبه، وبالغت في وصف نقائصه. ثم افترت عليه بعيوب لم تكن فيه، وصدّقت ما افترته حتى اختلط لديها الحقّ بالباطل."
قالت كليلة: "عليها اللعنة. لقد قطعت ما وجب وصله. ولكن ألم تكوني قد ذكرت غرقا؟" قالت دمنة: "لقد غرقت البنت حين كرهت في نفس الوقت أباها وأمّها، بل ونفسها والحياة أيضا. لقد غرقت لأنها فهمت أن والديها قد جعلا منها وسيلة لغاية. لقد غرقت لأنها عاشت ضحية لمن كان يدّعي أنه لا يكره الآخر إلاّ حبّا لها. وكم من محبّ أساء كبرا، فأضرّ بنفسه قبل أن يضرّ بغيره."
سألت كليلة: "توقّفي عن الإلغاز يا دمنة. لقد فهمتك. إنت لا تقصدين بنتا ولا أما ولا أبا. أنت تشيرين إلى إيرادستان، أليس كذلك؟" تبسّمت دمنة وقالت: "كنت أعلم أن الذكاء لا يعوزك." سألت كليلة: "ولكنّي رغم ذلك لم أفهم ما أردت من كلامك." أجابت دمنة موضّحة: "لقد غرقت إيرادستان لأن أهلها حين اختصموا لم يتركوا للصلح مجالا. بل أصبح أحدهم يرى الشرّ في ابن بلده. وقد ذهب بعضهم إلى حدّ تحريم معاشرة خصومه أو مجرد التعامل معهم. بل إن من هؤلاء الخصوم من صرّحوا بأن انهيار إيرادستان لا يحزنهم إذا كان ذلك يؤدّي إلى دمار خصومه."
تنهدت كليلة، وقالت: "من خاصم أهله حتى العداء، فقد خان نفسه حمقا. لقد زرع الفتنة، يحسبها قمحا. فحصد الشوك والعواصف محقا."
قالت دمنة بعد هنيهة: "لقد حسبت الأم أن كره ابنتها لن يطال إلاّ الأب، فانكوت كما انكوى. ومن يحسب أن السقف لا يقع إلاّ على رؤوس خصومه لأنهم أطول قامة منه، فأحرى به أن يدرس سنن السقوط."
سألت كليلة: "هذا تأويل الغرق الأول. فما حديثك عن الغرق الثاني؟" أجابت دمنة: "إن التأويل في الغرق الثاني أقلّ. فالمعاني فيه أوضح، وفهم حديثها أرجح. تخيّلي يا كليلة أن البنت من كثرة شقائها قرّرت الانتحار غرقا. للانتقام من أبيها وأمها دعتهما لحضور غرقها بحرا بعد أن كانت قد غرقت برّا. دعتهما يوما الى الشاطئ كي يحصدا ثمار زرعهما. دعتهما، وحين وصلا، ألقت بنفسها في الأمواج العاتية، وبدأت تسبح وهي تريد الموت." قالت كليلة: "يالها من عقوبة مستحقّة. لا شكّ أن أبويها قد ندما." ضحكت دمنة وأجابت: "ألم أقل لك أن ثمّة من صرّح بأن دمار إيرادستان لا يهمّه إن كان فيه دمار خصومه؟." قالت كيلة: "عجبا! لقد أغرقتني في قصة البنت، فنسيت أنها أمثولة." أجابت دمنة: "الكلام قياس. لقد نظر الأب إلى ابنته، وبدل نجدتها، صاح بالأم أن أنجديها الآن بعد أن أغرقتيها. فردّت الأم: بل أنجدها أنت أيها البطل! احتدّ الشجار على الشاطئ، وكانت البنت تبتعد بين الأمواج، ولسان حالها يقول: الموج أرحم من هؤلاء."
سألت كليلة: "لا أتصوّر أبا أو أما مثل الذي تصفين. كفّي عن هذا التشبيه يا دمنة، فقد استوفى غرضه." أصرّت دمنة: "بل إنه لم يصل الى مداه. ألا ترين يا كليلة أنّ كلّ طرف كان يخشى أن يمدّ يده للبنت، فتدفعها؟ ألا تعرفين أن ثمّة من يدّعي البطولة عند الطمع، ثم لا يلبث أن يشيح يبصره عن الجزع؟ ألا تعتقدين أن كلّ طرف كان يعلم ما في قلب الآخر من رغبة في القضاء عليه؟ فإذا هو يفضّل أن يستفزّه كي يبادر هو بخوض الأمواج، لعلها تبتلعه وحده، فيخلص من شرّه؟"
قاطعت كيلة صديقتها: "ولكن، والبنت؟ ماذا عن البنت؟" أجابت دمنة: "لعلّ كل واحد من الأبوين كان يعتقد أن البنت لم تكن جادّة في الانتحار. فكان يأمل أن ينفرد بها بعد خلاصه من شريكه فيها." سألت كيلة: "هل هذا حقّا ما حصل مع إيرادستان؟" أجابت دمنة: "بل حصل ما هو أفظع. لقد هبّ البعض بالفعل للنجدة. ولكن هيهات! لقد جاءت النجدة متأخرة، ولم يكن فعلها موحّدا." قالت كليلة: "على الأقل هناك من حاول. لم قلت أن ما حدث كان أفظع؟" أجابت دمنة: "لم تسمعي بعد ما قال الممتنعون. لقد ادّعوا أن الذين هبّوا هم المذنبون. ولو أنهم امتنعوا، لكانوا هم الذين هبّوا، ولكان نجاة إيرادستان. أي أن من حاول ولم ينجح قد باء بذنب من انقلب ولم يفلح."
سكتت كليلة طويلا، ثم قالت: "يا دمنة، أعلم أنّك لا تمزحين حين تذكرين إيرادستان. ولذا ليس لي ما أقول إلا: رحم الله إيرادستان!" زفرت دمنة وهي تكفكف دمعا وتقول: "رحم الله إيرادستان!"