ومفهوم «الإمارة» عند هذه الجماعات مركزي لأنه يمثل بالنسبة لها مرحلة متقدمة في وهم إقامة «الخلافة» وهو يدل أيضا على أن هذه الجماعات قد قدّرت بان كل أعمالها التخريبية السابقة قد أهّلتها لـــ«شوكة النكاية والإنهاك» أي للتمترس في قطعة أرض تقيم فيها عناصر من «نظامها» العام.. كتطبيق «الحدود الشرعية» وإقامة «الحسبة» إلى غير ذلك من المنظومة القروسطية التي تحكم مخيال هذه الجماعات التكفيرية..
ولكن لا ينبغي أن نستهين بهذا «الوهم» لأنه هو الذي يفسّر كل خطط واستراتيجيات التنظيمات الإرهابية في بلادنا منذ أن أضحت تنشط بصفة شبه علنية مع منطلق الثورة التونسية.
ينبغي أن نعود بالذاكرة قليلا إلى الوراء لنتبيّن مختلف خطط هذه الجماعات لإقامة «إمارة» أو «إمارات» في تونس..
هذا التاريخ لم يُكتب بعد ولذا يتوجّب علينا بعض الحذر وألا نلوّح بفرضيات أو استنتاجات لا تسندها الوقائع المادية الثابتة...
تعتبر سنة 2011 سنة مثالية لمجموعات الإرهاب السلفي الجهادي المعولم: خروج لقياداتها وكوادرها من السجن بمقتضى مرسوم العفو التشريعي العام وعودة المئات من الإرهابيين إلى أرض الوطن.. مصادر من الانتربول تتحدّث عن حوالي 300 من قدماء أفغانستان عادوا إلى تونس في الأشهر الأولى للثورة مستفيدين من التراجع الكبير حينها للمنظومة الأمنية ثم إقامة الخيمات والمؤتمرات «الدعوية» لاستقطاب الأنصار ولا سيما الشباب في جلّ مناطق الجمهورية...
ولا يمكن أن ننكر النجاح الذي وجدته هذه الجماعات لدى بعض المواطنين ولا سيما الشباب منهم حتى قيل حينها بأن السلفية الجهادية كانت هي التيار الأول عند الشباب المؤدلج في نهايات سنة 2011...
ولقد كانت لهذا التيار أنشطة واضحة علنية وأخرى خفية لا تعلمها إلا أجهزة الأمن هذا إن كانت حينها محيطة فعلا بكل تفاصيلها وخلفياتها: الدعوة في الظاهر والاستعداد للقتال في الباطن.
ولكن ما لا ينبغي إغفاله مطلقا هو أنه بالنسبة لجماعات الإرهاب السلفي الجهادي المعولم فإن الدعوة والقتال عمليتان متلازمتان وإن قدّمت إحداهما على الأخرى فلأسباب تكتيكية لا غير وإن ننسى فلا ننسى أن الجماعة الإرهابية الجزائرية التي تحوّلت إلى ما يسمى بتنظيم القاعدة بالمغرب الإسلامي كان اسمها عند تأسيسها سنة 1998 «الجماعة السلفية للدعوة والقتال»...
لا يمكن أن نعيد كتابة التاريخ ولكن نحن بصدد دفع فاتورة سنتي 2011 و2012 حيث تمكنت هذه المجموعات من حشد الأنصار وخزن السلاح وتسفير الشباب إلى سوريا وحتى سعيها الفاشل لإقامة إمارة في سجنان في جانفي 2012 لا بقوة السلاح بل بفرض نوع من الشرطة الأخلاقية بالتواطؤ مع السلط المحلية آنذاك.. ولم تكن الشرطة السلفية الأخلاقية لتفرّ من سجنان لولا تدخل وحدات من الجيش التونسي.
ورغم هذا الحدث الخطير والذي كان يحتّم على الجميع الانتباه لما يحدث تحت أقدامنا فلقد مرّ وتم تسفيه من نبّه له وقيل إنّنا نتحدث عن فزّاعات لإحداث «فتنة» في البلاد بين مختلف أجنحة «العائلة الإسلامية»...
ولم تمر أيام قليلة حتى حصلت، من باب الصدفة، اشتباكات بين خلية إرهابية كانت تحمل أسلحة وذخيرة في بئر علي بن خليفة.. وقد قال حينها وزير الداخلية علي العريّض بأن هدف هذه المجموعة هو إقامة «إمارة» إسلامية بتونس.. هذا الإعلان الرسمي لم يؤخذ حينها مأخذ الجدّ حتى من الحركة التي كان ينتمي لها الوزير...
لماذا نتحدث عن حلم «الإمارة» عند الجماعات الإرهابية؟ لأنه هو الذي يفسر لنا الكمّ الهائل من السلاح الذي تسعى هذه المجموعات لتخزينه على امتداد أشهر أو سنوات... فهي لا تحتاج فقط إلى سلاح لتقوم بعمليات إرهابية محدودة في الزمان والمكان بل تحتاج إلى سلاح تكون به قادرة – حسب توهمها – على السيطرة على رقعة جغرافية معيّنة (بن قردان نموذجا) ثم يخول لها فيما بعد الدفاع عنها...
وبما أنه هنالك دوما بون شاسع بين سلاح الجماعات الإرهابية، مهما عظم شأنه، وسلاح الجيوش النظامية.. فقد كانت كل مخططات هذه التنظيمات الإرهابية استهداف الثكنات العسكرية قصد تحقيق نصر مادي معنوي بداية ثم الاستحواذ على الأسلحة الخفيفة والثقيلة والذخيرة الموجودة هناك...
فالمحاولة الإرهابية الفاشلة في بن قردان تدل بوضوح على أن تنظيم داعش الإرهابي – والذي شكك بعضهم في وجوده فوق أراضينا – قد قدّر بأنه بلغ درجة من القوة تسمح له بالمرور من العمليات الإرهابية الجزئية (باردو، سوسة، محمد الخامس) إلى ما يُسمى بعملية إرهابية نوعية يتم من خلالها الاستحواذ على مدينة فدعوة «الأنصار» إليها والتمترس بأهاليها وجعلها قاعدة أمامية تنطلق منها المليشيات الإرهابية لتوسيع رقعة نفوذها...
ولعلّ النجاح المؤقت للتنظيم بالعراق ثم سوريا قد أغرى وأوهم «الأدمغة» المفكرة في هذا التنظيم الإرهابي بأن ما نجح في الموصل والرقة قد ينجح في بن قردان أيضا...
إن الفشل الذريع للهجوم الإرهابي على بن قردان حيث تلقى تنظيم داعش أكبر هزيمة له على المستوى الدولي سوف يدفع بقياداته إلى أحد أمرين: إما مرحلة من الانكفاء على الذات واستعادة ما يمكن استعادته وهذا يعني بالنسبة للإرهابيين إقرارا مذلا بالهزيمة.. وإما الهروب إلى الأمام وإعلان «حرب» شاملة على تونس، وهذا النهج هو الذي اختاره التنظيم الإرهابي، على ما يبدو، انطلاقا من البيانين اللذين أصدرهما بعد هزيمته المدوية في بن قردان...
ولكن ما معنى «حرب» شاملة على تونس؟..
نحن هنا في مجال الدعاية لا التهديد الجدي إذ لو كان بإمكان هذا التنظيم الإرهابي أن يقوم بأكثر مما قام به لما توانى عن فعل ذلك...
ولكن المقصود بهذه البروباﭬندا هو بداية رفع معنويات القواعد المنهارة اليوم بعد أن تمكنت قواتنا العسكرية والأمنية من محق تقريبا كامل «كتيبة» بن قردان.. ثم لعل هذا التنظيم الإرهابي يسعى أيضا إلى رفع الخناق على بعض خلاياه المطاردة بإيهام السلطة التونسية بأنه قادر على الضرب في كل مكان وهكذا يشتت الجهد الأمني والعسكري في محاربة فلول الإرهابيين الفارين من جحيم المعركة...
الواضح على كل حال أن المجموعات الداعشية الملاحقة والمطاردة في كل مكان قد تضطر إلى القيام بعمليات رعناء غير مدروسة رفعا لمعنويات أفرادها ولكن هذا التهور سييسّر كثيرا عمل الفرق الأمنية والعسكرية وسيعجّل بالقضاء النهائي على شوكة هذا التنظيم الإرهابي ببلادنا...
وهكذا يتحوّل «حلم» «الإمارة» إلى مقبرة للإرهاب في بلادنا..