ما يُنقلّ من تحاليل و قراءات المتابعين للشأن العام من سياسيين و خبراء و منظمات وطنية و ناشطين في المجتمع المدني، للأوضاع الاقتصادية والمالية الّتي يغني الواقع المعاش ، في الحقيقة ، عن أي تحليل لها.
هذا الواقع سعى واضعو قانون المالية إلى معالجته بلمسات ترقيعية تميزت بنوع من «التقرقيش» في محاولة لتدعيم موارد الدولة من الجباية ،دون نظرة إستراتيجية واضحة المعالم للإصلاح ، ومع وضع إجراءات متسرّعة ومثقلة في جانب منها لكاهل فئة من الخاضعين للأداء ، وفي نفس الوقت ، مما تسبب في إشكاليات جديدة و دافعة نحو البحث عن سبل للتهرب أو «المراوغة» بطرق جديدة . كما برز في هذا القانون منحى شعبوي بالترفيع في منحة العائلات المعوزة بنزر قليل و بتمكين المواطنين من قروض دون فائدة لتوفير بناء مخزنات مياه في إطار سقف محدود .
مثل هذه الإجراءات و غيرها دافعت عنها وزيرة المالية في الندوة الصحفية الّتي عقدتها أمس الإثنين 26 ديسمبر الجاري وسعت إلى إبراز أن ما جاء بقانون المالية ليس فيه أي إجحاف في حق المطالبين بالأداء و ليس له تأثير على مستوى عيش عموم الناس، وظلت المآخذ الّتي أبداها الخبراء و المنظمات المهنية ، على درجة كبيرة من الأهمية ، باعتبار أن الخطوط الهامّة في قانون ميزانية الدولة لسنة 2023 ، ظلت في حدود البحث عن توزيع الأعباء و كيفية توفير الموارد بصورة هشة ، لغياب إمكانية تحديد كيفية توفير بقية الموارد (غير الجبائية ) ، مع التعويل على الزيادة في التسبقة على الأداءات لتوفير موارد عاجلة في إنتظار منّة قد تأتي أو لا تأتي .
فضلا على ذلك ، فإن الإجراءات ذات الصبغة «الشعبية «الّتي تم تضمينها بقانون المالية حدّدت بسقف لا يفى بالحاجة، و هو ما سيجعله دون أثر في مجابهة الفئات الشعبية و الوسطى ، لغلاء الأسعار و تحمّل أعباء التخليّ التدريجي عن الدعم الّذي كان يتحمّله صندوق الدولة .
إن ما آثاره قانون المالية ، بخصوص الزيادة في معلوم الأداء على القيمة المضافة بالنسبة للمهن الحّرة ،لا يتوقف عند آثار الزيادة في حدّ ذاتها و إنّما في حجم هذه الزيادة الّتي قفزت إلى 6 نقاط كاملة، سيتحمّلها المطالب بالضريبة وخاصّة الشركات و المؤسّسات والمنشآت بمختلف أنواعها ، طالبة الخدمات، في كل المجالات، و هي زيادة غير هيّنة ستنعكس آثارها بالضرورة على المواطن الطالب المباشر للخدمة أو المستهلك .
هذه الحلقة المفرغة هي المخيفة ، لأنها ستدخل الجباية في مقولة «زيد الماء زيد الدقيق» الأمر الّذي سيفضي إلى الترفيع في الأسعار بشكل غير مباشر فتصبح فاعلة في خلق المشاكل بدل أن تساهم في الإنفراج .
لا شك أن الظرف الدّاخلي و الدولي صعب ،و لكن هذا لا يبرّر أن ينقطع التفكير في كيفية تطوير الموارد غير الجبائية ، والتفكير بجدية في كيفية تشجيع الاستثمار الوطني و حمايته ،وفي كيفية استجلاب الإستثمار الأجنبي و في كيفية المحافظة على بقاءه ،كي يساهم في تحقيق النقلة النوعية في مختلف فروع الإقتصاد .
إن الحوار حول قانون المالية ،الّذي سعت إليه المنظمات و الهيئات الفاعلة ، ليس مجرد الجلوس للنظر في إجراءات محاسباتية لضبط الموازنات ،على أساس البحث عن توفير الموارد المالية من عمليات زيادة و طرح، لتوفير النقص المسجل أو من المنتظر أن يُسجّل في هذا الميدان أو ذلك، إنطلاقا من المتوفر و الموجود ، وإنّما هو مجال للبحث والتخطيط ،بغاية إيجاد سبل لخلق الثروة و الموارد ، كفيلة بتجاوز النقص ،و تحقيق الفائض ، الّذي يحقق مزيدا من التنمية، ومن ورائها ، مزيدا من الإزدهار لتوفير سبل العيش الكريم.
لا شيء يحول دون تعميق النظر والبحث بإرادة صادقة ، لتعديل مواطن الخلل و تناول مستلزمات البلاد لتحسين سماتها الاقتصادية و أوضاعها المالية بتشريك أصحاب النوايا الصادقة وبعث هياكل وسيطة قادرة على إستيعاب الطاقات النشيطة في مختلف المجالات، كما كان الشأن في المجلس الإقتصادي والإجتماعي. فالبلاد في حاجة إلى كل طاقاتها الوطنية في المرحلة الراهنة ، لتغيير الأوضاع و إنقاذ البلاد من مزيد التردّي .