من خلال الخير الذي يمثّله. ولكن هنا تظهر مشكلة أساسية لا تخفى حتى على هؤلاء المتوهمين: كيف يمكن للخير أن يكسر الشر وأصحابه دون أن يصبح هو نفسه شرا، أو على الأقلّ مصدرا للشر؟
يجيب روبيسبيار عن هذا السؤال فيقول: «لا بد من تحالف بين الفضيلة والترهيب. فدون الفضيلة يكون الترهيب مدمرا. ومن دون الترهيب تكون الفضيلة ضعيفة». وهو ما يعني أن الخير ينبغي أن يستخدم، حين تقتضي الضرورة، بعضا من وسائل الشر لمواجهة الشر والأشرار، على أمل أن تحفظه فضيلته الأصلية من التحول إلى الشر.
كثيرون هم القادة الذين أضاعوا إنسانيتهم بسبب هذه السذاجة. فهم يؤمنون بأنهم ممثلو خير يعرفونه ضد شر يرونه. وإذا كان أكثر الخيرين يمنعهم خيرهم من استخدام وسائل مثل العنف والتعسف لمواجهة الأشرار، فإنهم هم انطلاقا من المحبة للخير والإخلاص فيه يقبلون بالتضحية، لا فقط بأنفسهم، بل حتى بقيمهم في سبيل كسب هذه الحرب الضروس.
إن من يؤمن بمثل هذه السردية يحكم على نفسه بالتحول إلى وحش ضار. فهو فريسة لنبوة واهمة يصبح فيها الغلو في الإيمان بالخير أشدّ ضراوة من كل ضراوة أخرى. فإذا الجلاّد يرى نفسه ضحيّة لأنه يضحي بقيمه، فيلوم ضحاياه. يلومهم على ماذا؟ يلومهم على أنهم أجبروه على إتيان الجرم. فيفقد الجلاّد بذلك كامل إنسانية. كما يفقد كلّ قدرة على مراجعة النفس.
لا يقف الأمر عند الأشخاص. فتلك هي أيضا تراجيديا الثورة، وتلك بالتحديد مأساة كل من يتحدّث باسمها أو يعتقد أنه يمثّلها. فالثورة بما أنها تجربة في إعادة التأسيس تحكم على نفسها بالفشل بمجرد تعريف نفسها بمعاداة أعدائها. فنتيجة ذلك أن أي صعوبة تواجهها الثورة أو يواجهها ممثلوها هي بالضرورة ليست نتيجة لواقع يتجاوز الجميع، بل إنها انعكاس لإرادة هؤلاء الأعداء الأشرار.
إن فكرة التآمر أصيلة في الثقافة الثورية. فالثورة في نظر أصحابها ليست كغيرها من المشاريع السياسية تواجه عقبات حين تنزيلها على الواقع. إن الثورة عندهم هي إرادة ميتافيزيقية لا تواجه إلا بشرا يرفضونها ضلالا وكفرا. وذاك فكر يفتح هوّة سحيقة لا قاع فيها إلا الشمولية الثورية والكليانية الإيديولوجية.
إن فكرا يقيم كل ترسانته الحجاجية على التسليم بشعار «الشعب يريد» إنما هو من أعراض العقلية الثورية والتيه الذي تقع فيه كلما أرادت الإفلات من دوّامة التدمير. ذلك أن رفع الغطاء الديكتاتوري على المجتمع وما يحويه من إرادات مختلفة يؤدي إلى تقابل عناصر يجهل بعضها بعضا. والجهل من أصول غياب الثقة. وغياب الثقة أساس التفكير التآمري الذي يصبح، كما هو الحال في تونس من سنوات، المرجعية الوحيدة التي تسمح بفهم الأحداث بسهولة وتناسق.
ذاك فخّ وقع فيه الجميع في تونس. وقد كان ما يسمى بمسار الخامس والعشرين من جويليا من أقذع مآلاته. وسرّ رواج سلعته لدى الجمهور أن قائد المسار روّج خطابا استقرّ في الأذهان، لا لأنه يعبّر عن حقيقة أو لكونه يصف واقعا، ولكن لأنه يتلاءم مع بارانويا جماعية نجح في تزعّمها من خلال تحويلها إلى خطاب يدّعي أنه حمّال لمشروع واقعي.
ليس «الزعيم» الذي يقود جماهير «البارانويا» بإلاه أو رسول أو حكيم، حتى وإن اعتقد ذلك القيسيون والقيسيّات. فهو ليس أكثر من جزء من تلك «البارانويا» الجماعية التي تهيئ للمأساة. وطريق المأساة تكون أكثر ما تكون معبّدة حين يكون القائد مستسلما لإيمانه بأنه يمثّل الخير ويحقق إرادة الشعب.
إن السلطة التي تستسلم هكذا لأوهامها تحكم على نفسها بالفشل المحتوم، وذلك بغض النظر عن كل الاعتبارات الموضوعية التي تحيط بها. ذلك أن الفشل مضمون هنا بسبب استحالة الغايات المعلنة. وليس أهونها رسم الحدود بين الخير والشر، بين الوطنية والخيانة، بين الإنسانية وغيابها، بين الحق والباطل. بهذا المنطق، لا يمكن لهذه السلطة المستسلمة لأوهامها أن تجد خصوما تقبل بهم ويقبلون بها. فخصومها هم أعداء بالضرورة، لا لشر مثبت فيهم، ولكن لكون السلطة التي تقف أمامهم قد نصّبت نفسها معيارا أوحد للوطنية وإرادة الشعب وغيرها من القيم التي يمكن التعبير عنها جماعيا بمصطلح الخير. فماذا ينتظر المختلف مع معيار الخير إلا أن يكون في كنف الشر؟
إن الحديث عن الديمقراطية أو الديمقراطية الحقيقية أو النمو الاقتصادي أو التنمية المستدامة أو غيرها من الغايات السياسية لعديم المعنى في ظل استحالة إيجاد مجال عام ينظّم المشهد السياسي وفق المبادئ الديمقراطية المعلنة، أي دون الحاجة إلى الوقوع في تخوين كل أشكال التعدد والاختلاف. وفي ظل وقوع البلد في هذا الفخ، فلا غرابة في أن يتحوّل المشهد السياسي إلى حالة من الفراغ، بل إلى ما يشبه الاحتضار. فالآخر هو العدو. وعليه، لا مجال لمناقشته. إذ أن النقاش يكون مع الخصوم. أمّا الأعداء، فلهم القطيعة والشتم، هذا ما دامت لم تقم عليهم الحرب بعد.
يكفي تونس اليوم مأساة أنها عاجزة عن أن تعيش حالة الخصومة السياسية دون الانحراف إلى العداوة. وإذا كانت هذه المأساة لم تبرز بعد بسبب ضعف تمظهراتها الأشدّ تطرفا، فإن هذه المخاطر تبقى كامنة. أي أنها يمكن أن تخرج إلى الواقع في أي لحظة ولأي سبب.