تنتهى مرحلة وتلج البلاد الى مرحلة اخرى وهي تجرّ معها ما خلفته سياسات وخيارات 25 جويلية من تداعيات ابرزها حالة الانقسام السياسي والمجتمعي التي تضفى على المناخ العام شحنة من الشك والخوف.
انقسام تعزز في المشهد التونسي خلال الاسابيع الفارطة وبات يمثل شوكة في خاصرته تحول دون القدرة على رسم مسار يحظى بتوافق يؤمن البلاد من هزات وارتدادات منطق المرور بقوة ومحاولة الحسم النهائي للصراعات السياسية. وما كانت الندوة الصحفية للهيئة العليا المستقلة للانتخابات يوم الاربعاء الفارط من اجل الاعلان عن النتائج النهائية والمعتمدة لاستفتاء 25 جويلية 2022 الا حلقة وتفصيل فرعي في هذا المسار الذي تضاعفت تعقيداته وغموضه.
في الساعات القليلة القادمة يدخل الدستور حيز التنفيذ الا ان ذلك لا تصحبه بوادر او مؤشرات طيبة تفيد بان البلاد قد طوت صفحة أزمتها اذ لا احد يراهن على ان تنزيل الدستور الجديد او الانتهاء من مرحلة الاستفتاء سيوفر ضمانات الاستقرار في البلاد او يخفف من حدة الاحتقان والتوتر اللذين يعتمران في كل تفاصيل المشهد التونسي.
مشهد هيمن عليه مسار سياسي من الممكن وصف السائر فيه كمن يرقص على طبقة هشة من جليد انتصبت فوق فواهة بركان ناشط. جميع عناصر التشبيه تنطبق على الوضع التونسي. فالمسار هنا معروف لا يحتاج الى التذكير به، مسار الرئيس الذي انتهج منذ 25 جويلية 2021 تاريخ دخول البلاد حالة الاستثناء التي يعتبرها الرئيس ضرورية لاعادة البناء والاصلاح واسترجاع الثورة واهدافها.
السائر هنا هو الرئيس نفسه الذي اختار ان ينهج مسلكه الخاص دون ان يترك مجالا للمشاركة او التشاور في رسم سياسات الخروج من الوضع الاستثنائي الى الوضع الطبيعي ولا في وضع خيارات وخطط الاصلاحات الكبري الاقتصادية او السياسية أو القانونية. وطبقة الجليد الهشة هي الصفة التي يمكن ان تختزل التوازنات التي افرزها استفتاء 25 جويلية وما لحقه من تطورات سياسية ابرزت حالة الانقسام الحادة في المجتمع التونسي.
اما البركان الناشط فهو نقطة تقاطع الازمات المتعددة في البلاد، ازمة القضاء وكيفية ادارتها من قبل السلطة التنفيذية التي اختارت المرور بقوة في نهج الاصلاح او ما تطلق عليه «التطهير» وأحداث الاسبوع الاخير تشرح الوضع الذي باتت عليه العلاقة بين السلطة التنفيذية ومنظومة/جهاز القضاء.
ازمة اصابت القضاء التحق بها اليوم توتر بين السلطة التنفيذية وذراعها القوي: قوات الامن الداخلي التي تعيش اليوم على وقع صراع السلطة السياسية مع النقابات الامنية، ولئن كانت الازمة في بدايتها الا ان سرعة تطورها تثير القلق خاصة في ظل خطاب لقادة النقابات الامنية يخفي في ثناياه التلويح بالتصعيد المرتقب.
وبهذا تكون الدولة التونسية اليوم في ظل ازمة تتمثل في توتر العلاقة بين سلطتها التنفيذية واهم جهازين لها، القضاء والأمن. وهي ازمة تندلع في مناخ سياسي محتقن بطبعه وتعتمل فيه صراعات الشرعية والمشروعية التي عززت حدتها نتائج الاستفتاء ونسبة المشاركة فيه وما شاب الاستحقاق من تعثرات وهنات
سحبت من مصداقيته الكثير.
كل هذا ليس الا نزرا قليلا مما يعتمل في البركان، فالبلاد اليوم تواجه اوضاعا اقتصادية ومالية صعبة جدا في ظل استفحال ازمة ماليتها العمومية التي اثرت على عمليات تزويد السوق وتوقف محركات الانتاج وضغط الانفاق اضافة الى ما الحقته الحرب الروسية الاوكرانية من اعباء اضافية ومن سلسلة من الاحداث
الاقتصادية والمالية السلبية التي مست الجميع دون استثناء مما يعنى ان البلاد مهيأة للخوض في سلسلة من التفاعلات الاجتماعية لا نعرف كيف ستكون ولا متى ستنطلق، لكننا نعلم ان القادح لها هو تواصل تدهور المقدرة الشرائية وتعثر الدولة في الايفاء بتعهداتها الداخلية والخارجية.
هذا ما نحن بصدد الخوض فيه اليوم ولا احد يمنى النفس بان يستمر الوضع في التازم او ان نبلغ الحد وتخرج الاوضاع عن السيطرة، ولكن الاماني لا تغير الواقع بل ان الخيارات والقرارات السياسية هي التي يمكنها ان تجنبنا كل هذا ولو في اللحظات الاخيرة، وهو ما يستوجب اليوم من الرئيس تحركا ومنهجية ادارة الشان العام بشكل مختلف عما كانت عليه الامور طيلة السنة المنقضية.
فمستقبل البلاد ومستقبل الرئيس معها مرتهن بقدرة الاخير على ايجاد ارضية ينبنى عليها اوسع توافق ممكن يمكن البلاد من ادارة بقية المرحلة ويضع حدا للانقسام العنيف في الساحة ويجمع اكبر قدر من الطيف السياسي والمجتمعي حول تصور مشترك لكيفية ادارة ما تبقى من رهانات واستحقاقات.
إما هذا والا سنباغت بانهيار سطح الجليد الذي يحول بيننا وبين الوقوع في البركان.