وقد انخرطت فئات من توجّهات فكرية متنوّعة في عرض تأويلات مختلفة للدستور، وهي إذ تفعل ذلك تحاول أن تتموقع، وأن تمارس الهيمنة على الجموع من خلال سلطة المعرفة. ولكن من المهمّ أن نشير، في هذا الصدد، إلى أنّ النخب ليست بصدد قيادة مسار إنتاج الأفكار واقتراح البدائل ورسم ملامح المستقبل بقدر ما هي في مقام الردّ والدفاع أو التبرير، أي في وضع التبعية إذ يبقى «قيس سعيد» صاحب النصوص والقرارات والأوامر يعزل، ويعيّن ويرسم السياسات ويعبّر عن تصوّراته وفهمه للسلطة والقانون فهو إذن الفاعل بالقوّة.
ونرى أنّه من المهمّ أن ننبّه أيضا إلى خصوصيّة السياق الذي وردت فيه هذه القراءات. فنحن إزاء استقطاب حدّي بين أنصار نعم وأنصار لا، واستقطاب أيديولوجي بين المدافعين عن مقاصد الشريعة/الإسلام باعتبارها آلية لتجديد الاجتهاد والمندّدين بهذا «الرجوع إلى الوراء» : من دولة مدنيّة إلى دولة دينيّة حتّى وإن ظهرت في لبوس «النظام الديمقراطي»، ونحن أيضا أمام استقطاب بين أهل القانون والحقوقين والمؤمنين بدولة القانون وبين الذين «كفروا بالقانون، وصاروا رافضين لهيمنة أهل القانون» على المشهد ، أي بين المتمسّكين بالتنظير من جهة، والباحثين عن براغماتية تحقّق في نظرهم المخرج الملائم من الوضع المتأزّم، من جهة أخرى.
ولا يمكن، في تقديرنا، التغافل عن موجّه آخر لهذه القراءات يتمثّل في تفعيل الذاكرة من خلال استرجاع ما حدث طيلة العشرية الفارطة إذ يغلب على قرّاء/ات الدستور التذكير المستمّر بما فعله «الخوانجية». ولعلّ ما يلفت الانتباه في هذا الأمر، اللبس الحاصل عن وعي أو عن غير وعي، عند أصحاب القراءات المندّدة بالتنصيص على مقاصد الشريعة /الإسلام وما يوحي ببروز الدولة الدينية، هو ربط الدين والإسلام بحزب النهضة وأدائها خلال هذه السنوات فكلّما ذكرت القيم الإسلامية، الدينية حرّكت في نفوس أغلبهم مخاوف قديمة من حزب النهضة والسلفية وحزب التحرير، وهو مؤشر على القراءات الانفعالية التي لا تعقل فعل القراءة.
لقد أدّى هذا الاستقطاب إلى ممارسة العنف اللفظي وأحيانا المادي الذي تجلّى في المسيرات الاحتجاجية، يُضاف إلى كلّ ذلك الضغط الممارس بالقوّة باستعمال أجهزة الدولة والذي ظهر في خرق القانون المنظّم للانتخابات وقد أشارت إليه منظمات وجمعيات مختلفة وأحزاب. ولا مراء في أنّ هذا المناخ العامّ المتسم بالانشقاق والتباغض يؤثّر في عمليّة التلقيّ وفهم الخلفيات الثاوية وراء الخطابات المتعدّدة التي ظلّت نخبويّة بالأساس ومشيرة في ذات الوقت، إلى التفكّك والتشرذم والصراعات التي تعيشها النخب التونسية اليوم.
ومن خصوصية هذا السياق ظهور الشعبوية في صور متعدّدة، وهي حركة سياسية تستهدف تقويض الديمقراطية ونسف المؤسسات والممارسات الداعمة لها،من جهة، وتحريك المشاعر و«التلاعب بالعقول» من جهة أخرى. وكلّما أوغل الخطاب الشعبويّ في الفرز والتصنيف «نحن» في مقابل «هم» صار أكثر انغلاقا وتقوقعا على الذات وأكثر حرصا على حمايتها من العناصر التي تتسلّل وتخترق وتلوّث «البناء الطاهر». وهنا تكمن خطورة الشعبوية على حقوق النساء بصفة خاصة، وحقوق الأفراد بصفة عامة إذ لم تعد الحريات والحقوق في مركز الاهتمام ولم يعد الفرد مدار النقاش بل أضحى «الشعب المختار» هو في الصدارة، والناطق باسمه والوصي عليه هو الحاكم المتفرّد بسلطة القرار والتنفيذ . وتثبت التجارب الأوروبية وفي أمريكا اللاتينية وغيرها أنّ الشعبوية تستفيد من ضعف المؤسسات وسياق الأزمات وكلما ازدادت مخاوف الناس صاروا أكثر تعلقا بمن يوهمهم بالخلاص.
إنّ السياقات التي أشرنا إلى بعضها (الشعبوية، الخوف، الهشاشة، التشذرم، الاستقطاب الحدّي، الأزمات ..) تسيّج لامحالة فعل القراءة وعمليّة التقبّل وتجعل فهمنا للدستور المقترح يتأرجح بين محددات الأيديولوجي والسياسي وإرثنا الكولونيالي وقضايا م نحسمها بعد.