يعتقد البعض أن الخروج من وضع الرعية يقتضي سلطة تكون في خدمة شعبها وليس العكس. أي أنها توفّر له الرفاه ورغد العيش. وذاك تأويل غير صحيح. فالراعي الذي يحرص على طيب عيش غنمه ليس إلا راعيا نجح في اختبار المسؤولية عن رعيته. أي أن رفاه الأغنام لا يرفعها إلى وضع المواطن الحر المسؤول.
إذا كان كل منّا راع وهو مسؤول عن رعّيته، فذاك يعني بالضرورة عدم المساواة في المسؤولية بين الراعي والرعيّة. ومثال ذلك أن مسؤولية الأولياء أكبر من مسؤولية أبنائهم، حتى في ما يخصّ شؤون الأبناء أنفسهم. ولكنه فارق يتراجع بقدر نضج الأبناء وتحمّلهم التدريجي لمسؤولية أنفسهم.
يعني هذا الكلام أنه لا يوجد عيب مبدئي في أن يجد شخص ما نفسه في وضع الرعية للحظة ما. ومثال ذلك أن المريض حين يكون بين يدي الطبيب، فهو رعية، وراعيه مسؤول عنه. ولكن وضع الرعيّة هذا ينتهي لديه بمجرد رفع سلطان الطبيب عنه. وهو سلطان يخضع له المريض بإرادته واختياره، ولا يجوز استخدام تلك السلطة إلا لمصلحته. ذاك ما يميّز المريض المواطن عن الخروف، رغم أنهما يشتركان في كونهما رعية لراع. فالخروف لم يختر سلطانه، ولم يخضع له بإرادته. كما أنه سلطان غير مقيّد بشرطه وحدوده، ويمكن أن ينحرف من رعاية الخروف إلى الاستجابة لعصافير بطن الراعي.
الآن: كيف يتحول الإنسان في خضوعه للسلطة من حالة شبيهة بحالة الخروف في علاقته بالراعي لوضع مثيل بوضع المريض إزاء الطبيب؟ وبطريقة أخرى: كيف يتحقق الخضوع بالاختيار ومن دون الانحراف للتسلط والاعتباطية؟ لم تجد البشرية إلى حدّ الآن أفضل من المواطنة والديمقراطية النيابية للإجابة على هذا السؤال. ينتخب المواطنون ممثلين لهم وفق مبدإ الأغلبية، ثم يقبلون بحكم الفائز في الانتخابات ما دام ملتزما بقواعد دستورية لا خروج عنها. ولئن كان بعض المتحذلقين في قمّة هرم السلطة التونسية ومن أحاطوا بها من انتهازيين وباعة ذمم يصرّون على أن هذا الكلام هو من جنس المقاربات القديمة التي لا بد من تجاوزها، فإنهم إنما يقترحون في الحقيقة قلب المعادلة بإبعاد الإنسان التونسي في علاقته بالسلطة من وضع المريض للطبيب من أجل تقريبه من حالة الخروف للراعي.
إنهم يفعلون ذلك باسم تجاوز ما سموه عشرية الخراب. وكأنهم يريدون أن يحولوا المريض المواطن إلى خروف رعية، وذلك بحجّة فشل الطبيب في تقديم العلاج، وبتعلّة حسن أخلاق راعي الغنم. ولئن كان فشل العلاج يمكن تفسيره بضعف كفاءة الطبيب وسوء أخلاقه، فإنه يمكن في المقابل فهمه إما بشراسة العلة التي يعاني منها المريض، أو بسوء اختيار المريض لطبيبه.
قياسا على ذلك، يمكن أن يكون فشل تونس نتيجة لاختيارات الشعب أو لما يخترق المجتمع من نقائص. ولكن وجب إنكار هذه الاحتمالات. لماذا؟ لأنه لا يجوز في بلدنا السعيد تحميل الشعب أيّ مسؤولية.
ألا تذكّر حماية الشعب من تحمل المسؤولية بشيء ما؟ ألا تذكّر مثلا بوضع الطفل الصغير الذي يجد نفسه في وضع الرعية، فيكون أولياؤه أكثر مسؤولية عنه من مسؤوليته عن نفسه؟ ولكن ألم نقل إن ذلك الوضع مؤقت يتراجع بمجّرد تحقق النضج؟
إذا أردنا الصدق، يذكّر الرفض المبدئي لتحميل المسؤولية للشعب بحالة الخروف الذي إذا جاع لا يتحمّل من المسؤولية شيئا. إنما جوعه من جرم الراعي لا من سواه.
هل يعدّ هذا الكلام من قبيل التجنّي؟ كلاّ. إن تونس تشهد اليوم مسيرة لإعادة إنتاج وضع الرعية فعلا، وبالمعنى الكامل للكلمة، وإذا اقترن ذلك بتجديد في التزويق فهو تجديد سفسطائي يوهم بالتقدّمية.
ليس في هذا الكلام تجن. إنه لا يحترم فقط الواقعية في التقييم. بل يحترم المنطق السائد أيضا. فإذا كان الشعب مجرّد جماعة هلامية لا توجد إلاّ للعب دور الضحية، فمن الطبيعي أن تكون الخلاصة أنه من الضروري تخلي أفرادها عن حالة المواطنة. الشيء الوحيد الذي يحتاج للتوضيح هو: كيف يمكن أن يحدث ذلك باسم الشعب والديمقراطية ودولة القانون؟
يكمن الجواب في الطبيعة الهلامية لاستخدام مصطلح الشعب. ذلك أن القطيعة بين الشعب والمسؤولية تتضمّن إمكانية تحمّل السلطة للمسؤولية الأخلاقية في حماية الشعب، تماما كما يحمي الراعي قطيعه غير المسؤول عن نفسه. هو يحميه من الأشرار، ولكنّه يحميه أساسا من نفسه.
مثال ذلك في هذا البلد إعادة صياغة الدستور في عزلة عن النقاش العام. وأمارته فرض المرسوم المنشئ للجنة القانونية المشرفة على صياغة الدستور لسرية المداولات. ودليله القاطع الانزياح الحاصل من سريّة المداولات إلا سريّة اللجنة نفسها.
إذا كانت السريّة بهذه الطريقة وسيلة لتحقيق ما يسمّيه الرئيس وبائعو الذمم بإرادة الشعب، فإننا إيزاء إعادة لإنشاء إرادة إلاهية من نوع جديد. إن المشكلة مع الإرادة الإلاهية أنها خفيّة. وبالتالي، وجب الإيمان بأنها تتمظهر أولا من خلال فعل السلطة المصطفاة، وثانيا من خلال ما يأتيه رجال الدين وفقهاء السلطان من تأويلات.
السؤال الآن: ما هو الفرق الفعلي بين هذه الإرادة الإلاهة وإرادة شعب يفترض أنه صاحب السيادة، ولكن دون أن يكون لمكوناته الحقيقية الحق حتى في مجرد الاطلاع على مسار صياغة نصوصه الأساسية؟ والجواب أن كلتا الإرادتين تشتركان في الخفاء. فيتحدّث باسمهما من يملك السلطة ومن يواليه من فقهاء السلطان. فقط يقع تعويض السلطة المصطفاة إلاهيا بالرئيس المنتخب شعبيا، واستبدال فقهاء السلطان ببائعي ذممهم من رجال القانون. والرئيس المنتخب في حلّ من القوانين التي انتخب على أساسها، بما يجعل إرادته فوق القانون، فهي تتلاعب به كما تشاء. وتأويلات باعة الذمم فوق الأعراف وفوق العلم. وإذا كان فقهاء السلطان يحللون الحرام باسم إرادة الله، فإن باعة الذمم يدسترون باسم إرادة الشعب جعل الرئيس فوق كل الهيئات، ويبررون باسم دولة القانون تحويل القضاء إلى وظيفة، وينظرون باسم المقاربات الجديدة إلى نهاية عهد مونتيسكيو.
لأسباب تقنية بحتة، لا يتوقّع حاليا أن يتحوّل المواطن التونسي إلى خروف في قطيع يرعاه راع كريم يهتمّ بسعادة الخرفان أكثر من اهتمامه بعصافير بطنه. ولكن هذا المواطن بصدد التحوّل فعليا إلى رعيّة بالمعنى التقليدي للكلمة. أي أنها رعيّة تحكم بمرجعيّة ميتافيزيقية تسمى مجازا إرادة الشعب دون أن يعلم أحد أين توجد هذه الإرادة. فلا يبقى للشعب من أجل اكتشاف إرادته إلا الاكتفاء بما يراه الرئيس وما يقوله باعة الذمم في خدمته. فهنيئا لكل من ساهم في تجديد مفهوم الرعية، من خلال توشيحها بهذه الحلة البهية.
تونس السعيدة برعيتها الجديدة
- بقلم أيمن البوغانمي
- 13:04 24/06/2022
- 1472 عدد المشاهدات
ما معنى أن يتحول الشعب إلى رعيّة؟ سؤال يتجاهله الكثيرون، لكن طرحه والإجابة عليه حاجة ملحّة لكي يعلم الناس ما لهم وما عليهم في هذا العهد السعيد.