ففي تصريحه لوكالة فرنسا للأنباء يقول العميد بأنه بالإمكان حذف الفصل الأول من الدستور في صيغته الحالية وذلك في إطار منع استغلال الدين وتوظيفه من قبل المتطرفين العملاء لدويلات أجنبية ..
لنترك الآن جانبا التبرير السياسي الذي قدمه منسق اللجنة الوطنية لإعداد دستور الجمهورية الجديدة ولننظر في معنى هذا الاحتمال ،أي حذف الفصل الأول من الدستور ..
لا يخفى على أحد الجدل الكبير الذي أثير حول موقع الدين (الإسلام تحديدا) في الدستور فهنالك من رأى أن الثورة لا تكتمل إلا بإعلان تونس دولة لائيكية أما الأصوات الأكثر ارتفاعا وقوة آنذاك والأكثر عنفا في بعض الأحيان رأت أن استكمال الثورة لا يكون إلا بالتنصيص لا فقط على أن الإسلام دين الدولة بل كذلك على أن الشريعة هي المصدر الأساسي للتشريع ..واحتد الصراع حينها كذلك حول معنى «الإسلام دينها» وهل أن ضمير الغائب يعود إلى الدولة (كما أرادت أن تفرضه حركة النهضة وحلفاؤها في مشروع دستور غرة جوان 2013) أم أن هذا الضمير يعود إلى تونس ..بعبارة أخرى هل نحن أمام صيغة معيارية (الإسلام هو دين الدولة) أم صيغة وصفية (الإسلام هو دين تونس أي دين غالبية الشعب التونسي) وانتهى بنا الأمر إلى تثبيت الفصل الأول في صيغته الأصلية في دستور 1959 دون إضافة أي تأويل مع إرادفه بفصل ثان جديد ينص على مدنية الدولة كنقيض ضمني لدينيتها ..
ما المقصود إذن من هذه التصريحات المدوية؟ وهل تعني أننا بصدد استرجاع هذا الصراع الذي عاشته البلاد وبحسمه لفائدة تصور «لائيكي» للدين من موقع السلطة هذه المرة ؟
لا نعتقد أن تصريحات العميد تدخل في هذه الخانة حتى وإن أريد لها إن تسوق إلى الخارج بهذه الصورة – بل نحن أمام فرض رأي رئيس الجمهورية على هذه الهيئة الاستشارية في مسالة جوهرية له فيها رأي خاص لا يمكن مطلقا أن يوصف لا باللائيكية أو حتى بالعلمانية..
في سبتمبر 2018 ألقى الأستاذ قيس سعيد محاضرة في كلية العلوم القانونية والسياسية والاجتماعية بتونس 2 في افتتاح السنة الجامعية الجديدة تحت عنوان «دينها الإسلام» (يمكن الاطلاع على هذه المحاضرة مسجلة على منصة «اليوتوب») والفكرة التي خلص إليها الأستاذ قيس سعيد بعد تعرضه الى عدة تجارب عربية وإسلامية في وضع الدساتير انه كلما لم تتدخل قوى أجنبية في صياغة هذا النص المرجع خلا المشروع من التنصيص على دين الدولة باعتبارها مسالة بديهية أما عندما تتدخل القوى الاستعمارية مباشرة في الصياغة فيتم التنصيص على أن دين الدولة هو الإسلام وهو يعزو هذا إلى رغبة الدول الغربية الاستعمارية في وضع جدار أمام التمدد الماركسي للاتحاد السوفياتي..
ويخلص قيس سعيد في النهاية إلى أن الدين لا يتجه الى الدولة بل إلى الأمة ..الأمة التي يسعى بعضهم إلى وضعها داخل حدود الدولة وهي أوسع من ذلك بكثير..إذن الإسلام ليس دينا للدولة لان الدولة لا دين لها ولكنه دين الأمة،ويبقى السؤال الكبير الذي لم يجب عنه الأستاذ قيس سعيد وهو: ما الذي يترتب عن كون الإسلام دين الأمة؟ هل تترتب عن ذلك تشريعات خاصة او وضعية خاصة للديانة الإسلامية في مجتمعنا ؟.
لدينا في الحقيقة إجابات غير مباشرة ، الأولى عندما أعلن رئيس الدولة قيس سعيد بوضوح عن رفضه للمساواة في الميراث بين المرأة والرجل لأن في ذلك مخالفة صريحة للنص القرآني ولأن القيمة العليا هي العدل لا المساواة ،والإجابة الثانية للعميد الصادق بلعيد في الحوار الذي أجراه مؤخرا مع جريدة «الشروق» حول ديانة رئيس الجمهورية عندما قال انه لا يمكننا أن نعامل المسلمين باعتبارهم العنصر الأغلبي في البلاد كالبقية وعليه فلن يتم المساس من شرط الإسلام للترشح لرئاسة الدولة ..
كما ترون نحن بعيدون كل البعد عن المعنى الذين قد يتبادر إلى الأذهان من حذف الإشارة إلى الإسلام في تعريف الدولة ..
نحن في الحقيقة أمام توجيه غير بريء، لنقاش جوهري حول حاضر ومستقبل البلاد المقصود منه فقط استرضاء الخارج وبعض النخب في الداخل بتسويق لفظي لا مضمون جدي له غايته الوحيدة إيجاد ذريعة لمنع أحزاب بعينها دون الإجابة عن السؤال الجوهري المتعلق بفصل الدولة -لا كهيكل صوري بل كتشريعات وكسياسات عمومية- عن الدين ومقتضياته مع التنصيص بوضوح على أن الدولة هي الوحيدة المخول لها الرعاية العامة للشؤون الدينية ولحق ممارسة الشعائر الدينية – أو عدم ممارستها – لكل المواطنات والمواطنين والأجانب مهما كانت عقائدهم ودياناتهم ومواقفهم الفلسفية في ضمان تام وفعلي لحرية الاعتقاد أو عدم الاعتقاد .
نحن هنا أمام مسائل جوهرية تهم عمق قواعد عيشنا المشترك ولا نخال أن العميد بلعيد أو حتى رئيس الدولة مخول للحسم فيها بصفة انفرادية خاصة إذا كنا أمام صياغات مخاتلة تعمق أزماتنا الفكرية والسياسية دون تقديم حلول جدية لها.