والمطالبة بالحقوق والإصلاح أحيانا أخرى، وعلى هذا الأساس لم تكن بنية العلاقة بين المجتمع المدني والسلطة ثابتة بل خضعت لقوانين اللعبة السياسية وإكراهاتها: فعاينّا عدم اعتراف السلطة الاستبدادية بالدور الذي يمكن أن تنهض به المنظمات غير الحكومية والجمعيات وغيرها من المكونات يُقابل بمواجهة وعشنا مسارا تفاوضيا تحت ضغط المجتمع الدولي شُفع بتقديم بعض التنازلات .. لنصل إلى سنة 2011 وما فرضه السياق الجديد من تصورات قائمة على التشاركية جعلت السلطة تقتنع أو تضطر في أغلب الحالات، إلى تبنّي سياسيات تُفسح مجالا واسعا لممثلي مختلف مكوّنات المجتمع المدني حتى تتفاعل وتنتقد وتحذّر من التجاوزات وتدعو إلى تصحيح المسار وتقدّم المبادرات...
ويمكن القول إنّ قبول السلطة بتغيير سياسات التعامل مع المجتمع المدني من جهة، وحيويّة الفاعلين واكتسابهم مهارات متعدّدة على مستوى بناء التحالفات واعتماد شبكات الضغط وتنوّع الاستراتيجيات من جهة أخرى، قد أدّى إلى إقرار الدارسين على اختلاف مشاربهم وانتماءاتهم، بالديناميكية الجديدة في تونس وبأهميّة التقاليد التي أرساها المجتمع المدني وقدرة الفاعلين على الإقناع والضغط والتغيير، وإشادة أغلبهم بقوّة المجتمع المدني وحيويته على امتداد عشرية من الزمن.
غير أنّ هذه العلاقة التفاعلية بين السلطة والمجتمع المدني ستختلف بعد 25 جويلية بسبب تغيير الفاعل الرئيس الذي صرّح في أكثر من خطاب، بأنّ له رؤية مختلفة لمكونات هذا المجتمع المدني وموقعها. فالرئيس سعيّد يؤمن بأنّ السيادة للشعب وليست لمختلف الفاعلين حتى وإن كانوا قد عاضدوا التغيير ومشروع بناء جمهورية جديدة، ومعنى هذا أنّ التراتبية الجديدة تجعل الشعب في أعلى الهرم وبعض مكونات المجتمع المدني في الأسفل، كما أنّها تمنح الصوت للشعب أو هي توهم بذلك، بينما تنظر إلى أصوات مختلف ممثلّي المجتمع المدني بعين الريبة والشكّ في النوايا أو تعتبرها غير قادرة على فهم طبيعة المشروع «الثوري» يُضاف إلى ذلك أنّ بعض مكونات المجتمع متهمة بتحصيل أموال من الخارج والتواطؤ مع «الأجنبي» ضدّ المصلحة العامة.
وبالرغم من أنّ التركيز كان دائما على رأس السلطة فإنّنا نعتبر أنّه من الضروري التساؤل عن طرائق تفاعل مختلف مكونات المجتمع المدني مع السلطة الجديدة؟
لاشكّ عندنا أنّ المجتمع المدني لم يكن يمثّل كتلة منظمة ومنسجمة إذ اختلفت التسميات : ناشط.ة حقوقي، ناشط مجتمعي، ناشط بيئي، ناشط سياسي، ناشط تقاطعي...وتباينت المواقف بين داعم للتغيير أو مندد بالانقلاب أو واقف على الربوة يشاهد ويترّقب في منزلة بين منزلتين... ومع مرور الزمن وغياب «خارطة الطريق» أو بروز رؤية تحتكر فعل البناء ظهرت الكتل وبدأ بناء التحالفات والتقى 'الأخوة الأعداء' حول حفظ المصالح والدفاع عن مشروعية المواقع السابقة، وظهر فاعلون جدد يرغبون في 'لعب 'أدوار تجلب لهم المرتبة المنشودة لاسيما بعد أن سحب البساط من الفاعلين السابقين.
والمتابع لأشكال حضور الفاعلين يتبيّن أنّ ردّهم على السلطة اتّخذ ملمحا واحدا، وهو الاحتجاج، فكان مع الدستوري الحرّ قائما على قوّة البرهان والاستدلال واستحضار البعد القانوني بينما كان مع أحزاب أخرى ينوس بين التنديد القائم على توظيف المعجم الحقوقي أو السياسي وبين الشتم و الاستقواء بالأجنبي...أمّا الجمعيات والمنظمات فقد اقتصر ردّ الفعل ، في الغالب،على أهل الحاضرة وعلى من عثروا على التمويل.
وبين تأكيد صورة السلطة/الشيطان/الشرّ في مقابل بناء المجتمع المدني البطل تتعطّل لغة الحوار. فالكلّ يتكلّم عن الآخر وحول خطط الآخر ولكنّه لا يتكلّم معه ولا يتحاور معه ولا يصغي إليه ... وينجم عن هذا المأزق اتّساع الفجوة وإقامة الجدران العازلة وضياع الفرص.
أفما كان من المجدي إعادة النظر في نمط هذه العلاقة والارتقاء بها حتى تصبح علاقة بنّاءة تواجه الفقر والهشاشة واللاعدالة والإفلات من العقاب والفساد وتبحث عن الحلول للخروج من الأزمات وتغيير الواقع؟