وهو قلق مفهوم، خاصّة إذا قارنا هذه الحالة من الجمود والتكلّس بما كان عليه الحال طيلة عشرية من الزمن. فلطالما مثّل الملتزمون بالشأن العامّ، والشأن السياسي على وجه الخصوص صمّام أمان حقيقي، وكانوا بالفعل علامة ديناميكية ملفتة للنظر تجلّت في الدفاع عن الحقوق والحريات والتصدّي لمختلف بنى الهيمنة. ولم يكن ما يحفّز الفاعلين الجدد (خارج أطر الأحزاب)على الاحتجاج وإصدار البيانات وممارسة الضغط ...الحرص على تحقيق المصالح الفردية بل الإيمان بالمبادئ والقيم والتعلّق بالوطن والرغبة في الخروج من الأزمات وإجراء الإصلاحات الهيكلية.
إنّ ما نُعاينه اليوم يعكس مشهدا مغايرا تماما لما كان عليه الحال منذ سنوات. فما إن تغيّرت قواعد اللعبة السياسية وازداد الوضع تعقيدا، وتعدّدت «الخروقات'' وبان التناقض بين الخطاب الرسمي والفعل على أرض الواقع حتى صار ردّ الفعل مقتصرا على التنديد «الخفيف» Light ومال أغلبهم إلى التعبير عن حالة الغضب والاستياء والاستنكار على صفحات الفايسبوك التي تحوّلت إلى «حائط مبكى» فنستغرب انتهاك الحريات وخطابات «الرجعية» ومظاهر التخلّف والردّة.
ولكن ما هي الأسباب التي حوّلت النشاطية (activisme) «الحارة» في الفضاءات العمومية إلى نشاطية'باردة وباهتة' في مختلف فضاءات التواصل الاجتماعي؟
قد نرى في خروج حزب النهضة من الحكم الفعلي عاملا من عوامل تسليم فئات متعدّدة بالأمر الواقع، خاصّة بالنسبة إلى الجماعات التي بنت فاعليتها ضدّيا معتبرة حزب النهضة الخصم الأوحد فكان حضورها في كلّ الاحتجاجات والمظاهرات محكوما بالرغبة في التعبير عن المواقف والمشاعر من حزب «أفسد مسار الانتقال الديمقراطي ودمّر البلاد» وبالرغم من معاينة تعثّر مرحلة ما بعد 25 جويلية، وتأزّم الاوضاع والعبث بالدستور والقوانين فإنّ المتداول هو: «ظل راجل ولا ظل حيطة» و«شدّ مشومك خير ما يجيك ما أشوم» وغيرها من الأمثال المشكّلة للمتخيّل والتي صارت لدى بعضهم/ن بمثابة قاعدة يستدلّ بها.
وقد يُعلّل رجوع العناصر المجنّدة للدفاع عن القضايا العادلة إلى قواعدها بسيطرة مشاعر الإحباط على من ضحّوا بأوقاتهم وأموالهم وعائلاتهم وصحتهم النفسية والمادية في سبيل ترسيخ الديمقراطية والعدالة الاجتماعية والحريات و... فإذا بهم اليوم ينتبهون إلى التدمير الممنهج لما تمّ تشييده ويعاينون محاولات نسف كلّ ما تحقّق سواء أكان على مستوى الوعي والإدراك أو بناء الهيئات والمؤسسات المستقلة وتطوير المفاهيم والنظريات وتحقيق التراكم المعرفي.
وقد تُعزى استقالة فئات أخرى من النشاطية إلى شحّ الموارد فالذين راهنوا/ن على التمويل الأجنبي لتحسين أوضاع شرائح مختلفة من المجتمع ظلّت طيلة سنوات منسية ما عاد بإمكانهم العمل. وأنّى لمن ناضل من أجل حرية الضمير وحرية المعتقد وحرية التعبير والمساواة والعدالة الاجتماعية واصطف إلى جانب المهمّشين والمنسيات أن يستمرّ في تنظيم الدورات التكوينية وبعث المشاريع الصغرى وهو بلا موارد؟
وقد يكون وراء انحسار دور الفاعلين الجدد ، وخاصة الشبّان رفضهم/ن لهذا المشهد «البائس برمتّه» ولجوء فئات منهم إلى الهجرة، والبحث عن فرص أخرى لإثبات الذات بعد أن ضاقت المدن بأهلها وصادرت أحلام جيل ناهض مختلف بنى القمع المتقاطعة فإذا بهم/ن صاروا في نظر أغلب المستكينين، «الجيل الخطأ» عديم التربية...
تتعدّد الأسباب وتتفاوت وفق الأجيال والمواقع والتجارب وغيرها، ولكنّنا نقدّر أنّ إشكال خفوت النشاطية متصل بانحسار دور المعارضة وغياب الأحزاب السياسية المبشّرة بطرائق أخرى في العمل والتنظّم والمبتكرة لمشاريع سياسية جديدة وهو ليس ظاهرة معزولة عن منظومة الحكم وإدارة السلطة والمرجعيات السائدة اليوم.
وفي انتظاراستعادة المجتمع المدني لدوره تبقى المقاومة الفردية أو وفق مجموعات صغرى شكلا من أشكال الصمود أمام فرض ثقافة الاستسلام والاستكانة وسياسات فرض الأمر الواقع واستراتيجيات الإكراه.