فتية بصدد بناء المؤسسات والعمل على مواجهة الأزمات: الأميّة والتخلّف والفقر، و»السخط الكلّ'...بل إنّها كانت مشروعا تعليميّا وتربويا يقوم على تهذيب سلوك الأفراد وتحفيزهم على العمل الجادّ وتغيير نمط عيشهم وهندامهم وطريقة التحّكم في نسلهم وغيرها من المسائل. وبقطع النظر عن تقييم محتوى هذه الخطب فإنّ المُجمع عليه أنّها كانت ذات تأثير ونجاعة يكفي أنّ أغلب التونسيين لا زالوا يسترجعون بعض الكلمات أو الأمثلة أو التلميحات التي تضمّنتها هذه «التوجيهات»، وأنّ شهادات عدد منهم/نّ تشير إلى إفادته/ها من «الدروس» الشاملة واعتراف بالجميل ممّا يثبت احتلال هذه الخطب موقعا في الذاكرة الجمعية.
ولكن ما الذي دعانا إلى استرجاع هذا التاريخ؟
نشير إلى هذا الموضوع لعلاقته بشكل من أشكال تواصل الرئيس المسؤول مع الجماهير والذي كان يقوم بالأساس على وضع سياسات شاملة ومشروع متكامل لا ينفصل فيه البناء عن التغيير والإصلاح، ولا تتنزّل فيه القرارات والمراسيم والأوامر دون أن تُشفع بتواصل شبه يومي للتوضيح والشرح والعمل على تغيير البنى الذهنية. وإذا قارنا تواصل الرئيس بورقيبة بما نُعاينه اليوم من إصرار الرئيس سعيّد على بناء خطاب أحادي قائم على استحضار الأعداء والعمل على تحميلهم كلّ المصائب وفضح المؤامرات والدسائس و... الأمر الذي أدّى إلى حالة من العزوف عن متابعة هذه التدخلات بسبب اجترار نفس الأساليب (الوعد والوعيد، التهديد، الفضح ...) حتى وإن تغيّرت المواضيع، كذلك بسبب انتفاء إمكانية تجدّد الخطاب «القيسيّ» وفقدان نجاعته. فأن تشهّر بالآخر وتفضح نواياه وتصوّره على أساس أنّه الشيطان/الشرّ/الكيد... معناه أنّك تتعمّد الفصل والتمييز وإقامة الحدود بين الأنا/الآخر ولكن هل يكفي ذلك لإحداث التغيير على أرض الواقع؟ أليست المحافظة على نفس الطريقة والمضمون مخبرة عن التسييج والتكلّس والعقم وعدم القدرة على بناء خطاب أكر قدرة على التأثير في الجماهير التي يُطلب منها أن تنخرط في العمل والإنتاج وأن تثبت مدى تعلّقها بالقيم والمبادئ والوطن؟ وهل يعقل أن يكون خطاب من هو في موقع المسؤولية خطابا انفعاليا (غضب وتشنج واستياء...) تحضر فيه الشكوى؟ وهل أن هدف الخطاب كسب عدد من الناخبين عن طريق استدرار تعاطف الناس معه وتحريك مشاعرهم فيرددون: «مسكين الرئيس»، «سعيد لست وحدك»،..؟
لا نحسب أنّ هذا الشكل التواصلي الانفعالي القائم على الشكوى المستمرّة من الآخر مندرج ضمن الخطاب السياسي الذي بإمكانه أن يتحوّل إلى مادة تُدرّس في اختصاصات عديدة كالعلوم السياسية ودراسات الميديا وغيرها فهو يفتقر إلى مقوّمات الخطاب السياسي. ولا نتصوّر أنّ هذا الخطاب قد استطاع تغيير عقلية التونسي والدليل على ذلك أنّ دعوات التطهير والامتثال للقانون والقيم والتغيير من الذات لم تؤخذ على محمل الجدّ.فظهر المحتكرون وفضح شجع البعض واستشرت الفردانية والرغبة في الاحتكار والدفاع عن حقّ الحياة والخلاص إلى غير ذلك من الأمراض الاجتماعية التي تؤكّد أنّ التسويق لصورة الملك/الإمام/الرئيس العادل والأمين والشريف والصالح في قطيعة مع واقع مأزوم.
ولئن أشرنا إلى مظهر من مظاهر قتل الفعل السياسيّ وعقم الخطاب فإنّ الأمر يتجاوز شخص الرئيس إذ يكفي أن تتابع مداخلات عدد من اطلق عليهم «سياسيون» حتى تتفطنّ إلى الواقع المؤلم فبالرغم من انتشار الأكاديميات السياسية، واحتكار أهل القانون والعلوم السياسية المشهد تأطيرا ومواكبة وشرحا وتنبيها.. فإنّ المحصلّة مخزية إذ استمر المتطّفلون في لعب أدوار باهتة على الركح المتداعي، وظهر صبيان جدد يرغبون في «تعلّم السياسية في رؤوس اليتامى».
موت السياسية
- بقلم امال قرامي
- 09:46 25/03/2022
- 1003 عدد المشاهدات
يعتبر عدد من الدارسين/ات أنّ خطب الحبيب بورقيبة «وتوجيهاته»اليومية اضطلعت بدور أساسي في تغيير العقليات وبثّ التوعية بالتحديات التي تواجهها دولة