بعد انقضاء فترة «العمليات البيضاء» التي امتدت من 1 جانفي الى يوم امس.
مرحلة الاستشارة او كما كان الرئيس يطلق عليها في بدايتها « الحوار» مع الشباب والتونسيين هي الحجر الاساسي في مسار سياسي اعلنه الرئيس يوم 13 ديسمبر الفارط، وفيه فصّل محطات خارطة الطريق للخروج من الوضع الاستثنائي الذي سينتهى بانتخابات تشريعية في 17 ديسمبر من السنة الجارية.
خارطة وزعت على محطات جعلتها مترابطة. اي ان الفشل في اية محطة منها يعنى فشلها كليا وهذا ما يجعل من الاستشارة الوطنية اولى الاختبارات الجدية للرئيس منذ ان اعلن عن تفعيل الفصل 80 من الدستور في 25 جويلية 2021، اي ان مخرجاتها قد تكون هي التي ستحدد له النجاح او الفشل في باقي مساره.
مسار وجب التذكير بأن الرئيس صاغه بمفرده دون ان يفتح باب التشاور او الحوار بشأنه بهدف تحقيق توافق وان في حدّه الادنى يضمن مناخ مستقر يوفر الشروط الموضوعية لنجاحه. وهذا يعنى ان المسار السياسي للرئيس ينطلق برصيد سلبي وبقلة الداعمين له.
رصيد تضاعف في الايام الفارطة، بعد ان برزت العثرات التقنية التي احاطت بالبوابة الالكترونية المعدة بهدف استشارة التونسيين في جملة من المحاور. تعثر ضاعفت منه اسئلة الاستشارة التي سربت وكشفت عن توجه عام يبين ان الاستشارة الشعبية هي اقرب الى عرض للمشروع السياسي للرئيس وتذكير بانحرافات السنوات العشر الفارطة.
عرض جعل من الاسئلة ومحاور الاستشارة محل نقد لاذع لا فقط من معارضي الرئيس الذين اعتبروا الاستشارة « خديعة» بل من انصاره ودائرة من محيطه المنتسب الى المشروع السياسي العام له، فهؤلاء وان لم تبرز اصواتهم في العلن اشد من ينتقدون التمشي الذي سلكته الاستشارة ومضامينها ومن نقدهم ان استشارة جسّدت تناقض الفكرة مع اجهزة التنفيذ فالرئيس وهو يسوق لحواره كان شديد الحرص على ابراز انه يهدف الى تمكين كل التونسيين من فرصة التعبير عن انتظاراتهم دون توجيه او نزيف لوعيهم ولكن التنفيذ عكس واقعا مغايرا فما يسأل عنه التونسيون ليس انتظاراتهم بل اي خيار مما يقدم لهم من قبل « الادارة » يعتبرونه الاقرب لهم. فالاستشارة الراهنة ما هي إلا نتاج عمل «اداري» بحت حتى في محاولات تجاوز العقبات والعثرات الناجمة عن تجاهل معطيات احصائية عدة من بينها مستوى الارتباط بالشبكة ونسبة الامية الرقمية وضعف استعمال التكنولوجيا لدى اوساط من التونسيين. والحل المقترح لتجاوز كل هذه العثرات هو ان تتولى الادارة عبر فرق مكلفة بالذهاب الى من لا يمكنهم الولوج الى شبكة الانترنت او لا يمتلكون مهارات استعمال التكنولوجيا لتيسير عملية مشاركتهم.
اضف الى هذا الانتكاسات العدة التي سجلت في العملية البيضاء للاستشارة ومنها عدد المشاركين وتوزيعهم الجندري والعمري والجهوي والتعليمي، وهو ما يعكس ان المسار يواجه تحديا فعليا في تحقيق هدفه المعلن على الاقل. كل هذا مجتمعا يسلط ضغطا اضافيا ويوفر حججا اضافية لدى المعارضين لمسار الرئيس.
حجج ستلتقط عناصر من بينها غياب الشفافية، الناجم عن تحكم الادارة بكل مسار العملية، وغياب جهة تحكيمية مستقلة يمكنها الحسم في دقة الارقام المقدمة والنتائج التي سيقع الوصول اليها، وهنا الامر لا يتعلق بكفاءة الادارة بل بالحكم الذي يرتضيه كل الاطراف ولا ينازعونه حكمه او يشككون فيه.
هذا الحكم غير موجود لان المسار منذ بدايته قام على تصور احادي وهو تصور الرئيس الذي اسقط جملة من الاعتبارات السياسية الهامة والمفصلية في المسار، وهي توفير ارضية دنيا جامعة تحول دون ان يكون المسار برمته محل تشكيك يتعاظم يوما بعد يوم مع كل ثغرة او خلل يبرز.
وهذا لا يعنى ان «الفشل» محتوم ومقدر او ان امكانية التعديل والتصويب قد انقضى اوانها بل هي ممكنة لكنها مقترنة بشرط اساسي وهو ان يستوعب الرئيس انه لا يضع مساره على المحك بل مستقبل البلاد وحاضرها في ظل وضع اقتصادي صعب يستوجب توفير حد ادنى من التوافق السياسي والمجتمعي فإدراك هذا يعنى الاقرار بان الحوار لا يكون على شاكلة الاستشارة الحالية.