لا يجب أن يقتصر على وضع السياسي في مركز الاهتمام ودراسة طموحات وتصوّراته وأهدافه، بل يجب أن يأخذ بعين الاعتبار مواقع الأحزاب المعارضة ومواقفها وتصوراتها ومصالحها. وهذا يعني أنّ على رئيس الجمهورية/السلطة التنفيذية أن يُنصت ويتفاعل مع الأصوات التي تعبّر عن مخاوفها من الانزياح عن المسار الديمقراطي أو تلك المنتقدة لـ«ضبابية» المسار أو لخروجه عن التقاليد المتعارف عليها في النظم السياسية المعاصرة. والرئيس إذ يعير انتباها للفاعليين السياسيين فيعدّل تصوراته ويراجع مواقفه يقيم الدليل على أنّه يؤمن بالأسس المنظمة للعقد بين من يتولى السلطة وإدارة شؤون المواطنين ومن ينتفع بهذه الخدمات ولعلّ أهمّ هذه الأسس: التشاركية وتقدير ما يرد من ملاحظات نقدية والعمل بها واحترام حريّة التعبير فعليا لا شكليا.
غير أنّ المتابع للخطاب السياسي «القيسيّ» ينتبه إلى أنّه معبّر عن حالة توتّر دائم باتت تشكّل ثابتا من 'ثوابت»الخطاب وكأنّ الشغل الشاغل للرئيس هو الردّ على الخصوم والدخول في صراع مع الآخر والتهديد بنفي أو استبعاد كلّ معارض لسياساته. ولاشكّ أنّ تواتر مثل هذه الخطابات الانفعالية مثير للتساؤلات . فهل أنّ الشعب حاضر من خلال الاستدلال على وجاهة التصورات(إرادة الشعب) وغائب في مضمون الرسائل التي يوجّهها الرئيس لخصومه ؟ وهل أنّ تعميم الاتهام بالفساد واللاوطنية والقصور الذهني... هو استراتيجية تهدف إلى إقناع المتلقين للخطاب بأنّه لا مخرج إلاّ بنسف كلّ الأحزاب القديمة/الملوّثة وبناء أرضية جديدة تسمح بولادة فاعلين مختلفين و«طاهرين»؟
يبدو الرئيس غير مؤمن بالتشاركية والإدماج وغير راغب في التفاعل مع كلّ التونسيين/ات من موقع المستجيب لمطالبهم الأساسية (الإصلاح الشامل، تحسين الخدمات، توفير مواطن الشغل، ترسيخ المحاسبة والمساءلة ومقاومة الإفلات من العقاب و...)بل يظل مصرّا على أن يتعامل مع التونسيين باعتبارهم الطرف الشاهد على معاناة الرئيس وصراعه مع الفاسدين والداعم والمؤازر لما يراه السياسي ويقرّره ويطمح فيه. فهو الأب الراعي العليم بمصلحة شعبه/أبنائه. ولكن ماذا لو تمرّد الشعب على هذا التصوّر وأعلن العصيان والخروج من هذا الوضع السكونيّ والتقبّل السلبيّ؟
لاشكّ أنّ تمثّل كلّ الأحزاب على أنّها سبب البلاء وتسييجها ضمن دائرة انتهاء الصلوحية' وفقدان الشرعية والفاعلية لا يعبّر عن مواكبة للدراسات السياسية الأخيرة التي انكبت على سدّ فراغ في الأدبيات السياسية ظهر في إنتاج النظريات التي تولي أهميّة للأحزاب المعارضة وأدوارها وتعثّرها و... كما أنّ هذا التصوّر لا يعكس الواقع السياسي التونسي. فحدث 25 جويلية جعل بعض قيادات الأحزاب تعترف بأخطائها أو تعدّل خطابها وسلوكها أو تختار الاستنجاد بالخارج في مقابل أحزاب لم يعد يسمع لها صوت بفعل الصدمة أو رغبة في انتظار ما سيؤول إليه الأمر. أمّا الحزب الدستوري فإنّه تطور في أساليب عمله وتموقع باعتباره حزبا معارضا قادرا على الفعل والصمود ومواجهة الفكرة بالفكرة والتأويل القانوني بالتأويل القانوني المغاير...وهو ما يثبت أنّ هوية الأحزاب المعارضة(ديمقراطية/غير ديمقراطية...) ووظائفها(الضغط، التجييش...) وأشكال أدائها(قوي/ضعيف) ومواقعها ومساراتها (متطورة/متكلسة)وسلطتها متنوعة ومتفاوتة الأمر الذي يفضي إلى التصنيف وفق تراتبية مغايرة لما كان عليه الأمر قبل 25 جويلية، والتأكيد على الدينامكية الجديدة التي نعاينها على مستوى الحضور والفعل وعلاقات القوة وموازينها ضمن مشهد تعقد فيه الإيلافات مع فاعلين آخرين في المجتمع المدني لهم موقعهم.
إنّ الإصرار على تغيير المشهد السياسي بطمس هوية جميع الفاعلين فيه حوّل عددا من الأحزاب من موقع 'الأحزاب الحاكمة' إلى موقع المعارضة كما أنّ إلغاء كلّ علاقة بين السلطة التنفيذية والأحزاب جعل الهوّة بين هذه الأطراف تتسع يوما بعد آخر وأبان، في الوقت ذاته، عن عجز المعارضة عن تخطي هذه العقبة. ولكن أنّى لها أن تبني علاقة جديدة والرئيس غير مكترث لوجودها وغير مؤمن بوظائفها.
ولسان حاله يردّد:
وإذا أتــــتك مذمتي من نـــــاقصٍ ......... فهي الشــــهادةُ لي بأني كامــلُ