هذا ما كان متوقعا و سبق أن أسميناه في افتتاحية 15 أوت الماضي «مدونة تنظيم السلط المندرجة ضمن التدابير الإستثنائية». ولكن خلافا لما كان منتظرا لم يحدث ذلك بعد تعميق التشاور الجاد مع الأطراف الاجتماعية الّذي كنا نحبّذه في نطاق مشروع مسبق شامل تتبناه على الأقل،الأطراف الإجتماعية ولا يتوقف على المسائل التقنية القانونية والرؤية السياسية الجديدة ، بل يقع الكشف فيه عن الخطة التي تتضمن التصور المحرك لمتطلبات التنمية والاستثمار وخلق الثروة وذلك أهم ما تحتاجه البلاد لتخطي الصعوبات وتحقيق الإقلاع الإقتصادي.
لم يعلّق سعيد دستور 2014 كما يتردّد ، لا بإعتبار أن الفصل 80 منه هو مصدر نفوذه فقط، بل لأن الأمر الرئاسي نفسه نص أيضا على أنه يتواصل العمل بتوطئة الدستور وبالبابين الأول والثاني منه، وبجميع الأحكام الدستورية التي لا تتعارض معه. و الجدير بالملاحظة أن الأمر 117 أقر ضمنيا بالتوسع في تطبيق الفصل 80 عند إشارته إلى تطبيق مبدإ السيادة للشعب، بأنه غلّب تطبيق المبدإ على الأشكال والإجراءات، و بذلك ردّ على إتهامه بالتعسف في تأويل أحكام الدستور.
هذا يعني في المحصلة، أن لّجوء سعيد إلى تطبيق الفصل 80 من الدستور -ليس في الحقيقة- لخوض معركة قانونية، وإنما لاتخاذه وسيلة لتمرير تصور سياسي يتبنى مرتكزاته النظرية الّتي سبق أن عبّر عنها في أكثر من مناسبة ، و التي تتمحور حول آليات تطبيق الديمقراطية أو التمثيلية المباشرة.
لذلك خرج الامر 117 عن النطاق القانوني الضيّق ، ليتخلّص إلى التبرير النظري والسياسي المتعلّق بتطبيق مبدإ السيادة للشعب، بعد أن تعذر على الشعب التعبير عن إرادته و ممارسة سيادته والتعبير عنها في ظل الأحكام الدستورية السارية، كما جاء في حيثيات الأمر . هذا الأمر إنتهى فيه رئيس الجمهورية إلى «الجزم» بأن «الشعب التونسي عبّر في أكثر من مناسبة عن رفضه للآليات المتعلقة بممارسة السيادة وطرق التعبير عنها،» و بذلك كشف عمّا ينوى القيام به ، في صياغة إنشائية أدبية ، غير متلائمة مع فنيات الصياغة القانونية ، واضعا نفسه متصدّرا للمعبرين عن إرادة الشعب و مصادرا لذلك ، دون أن يكون ماسكا لتفويض مثبت بإستفتاء شعبي الّذي يعد الوسيلة الوحيدة المباشرة للتعبير عن هذه الإرادة حسب نفس المرتكزات النظرية.
لذلك أثارت صياغة الأمر الرئاسي المخاوف وخلقت زوبعة إعلامية لعدم التروى فيها، وأزعجت كل الماسكين بالسلطة و الطامحين لمسكها، وبرزت في المنابر التحليلية مواقف غلب عليها الهاجس القانوني و قراءة النوايا والسقوط في كثير من الاحيان في العنف اللّفظي والتوصيفات السياسية بتبريرات وقراءات قانونية انتقادية موجهة. كل ذلك رغم تسليم الجميع بأننا لسنا بصدد معارك قانونية و إنّما إزاء تطاحن سياسي يصرف النظر عن وضع إقتصادي متردّ يحتاج إلى حلول عاجلة حتي لا يؤدي العجز إلى شلل خطير مهدد لكيان الدولة .
صحيح أن الأمر الرئاسي سقط في مطبات استعراض التبريرات النظرية والسياسية الّتي فتحت الباب للجدل وإحراج المدافعين عن توجهات سعيد ، إذ لم يقتصر على بيان كيفية تنظيم السلط في إطار التدابير الإستثنائية و جوانبها الفنية، ولم يحدد مختلف المحطات المستقبلية و آجالها بكل وضوح ، و لم يكشف عن إرادة تجميع التونسيين ونية التشاور مع القوى الوطنية والأطراف الاجتماعية ، للطمأنة ،و لتأمين حزام ينخرط معه في إنقاذ البلاد ممّا هي فيه. لكن الأمر الرئاسي راوح بين الهاجس القانوني والهاجس النظري والسياسي، وفتح المجال لبث المخاوف والتأويل و القراءات المتعسفة بسبب توسعه إلى جزئيات مختلف الأحكام الّتي تنظم الشأن العام ، في مسعى إلى غلق كل المنافذ الّتي هي مصدر مخاوف صائغي الأمر ،و هي مخاوف غير مبررّة ، بإعتبار أن ممارسة السلطة التنفيذية والتشريعية استبقاها رئيس الدولة إلى مؤسسة رئاسة الدولة سواء في شخصه أو لمن قد يخلفه في ظل المرحلة الاستثنائية.
لذلك أثار الفصل الرابع من الامر الرئاسي ردود فعل متشنجة أحدثت شيئا من البلبلة والرعب رغم أن أحكام الفصل المذكور عوضت تعريف القوانين الأساسية والقوانين العادية الواردة في الفصل 65 من الدستور، بمراسيم و قد كان بالإمكان صياغة فصل مختصر يشير إلى أن القوانين العادية والأساسية الواردة في الفصل 65 من الدستور تتخذ شكل مراسيم وتُعوضُ بمراسيم رئاسية . لذلك كانت ردود الفعل غير متوازنة لأن الجميع يعلمون أن المس من مكتسبات التونسيين في مختلف المجالات ليس أمرا هيّنا و أن الحفاظ عليها يقتضي الإتفاف حولها و مؤازرة الدولة لحمايتها بعد أن هدّدها التسيب و نال من بعضها بسبب السياسات الخاطئة والفساد .
كما أثار الفصل 22 من الأمر الرئاسي ردود فعل حادة حتى من الذين كانوا يُعتبرون من مؤيدي سعيد رغم أنه كان بالإمكان توضيح تركيبة اللّجنة الّتي ستساعد على إعداد مشاريع التعديلات المتعلّقة بالإصلاحات السياسية وذكر المنظمات الإجتماعية والهيئات الوطنية مثلا والكفاءات التونسية. ومثل هذه الإضافات و تجنب التزيّد الّذي يصادر المواقف المستقبلية حول المخرجات العملية مما يترك مجالا للتفكير ويساعد على المضي قدما لتجميع التونسيين حول مشروع التصحيح الّذي سيخرج تونس مما هي فيه، وتجنيب المناخ السياسي مزيدا من التوتر والحيلولة دون إتاحة الفرصة للتشكيك و بث المخاوف في الداخل وفي الخارج .
إن مشروع الإصلاحات المشار إليها بالفصل 22 من الأمر الرئاسي تعطي فكرة عمّا يصبو إليه رئيس الجمهورية بخصوص هاجس التمثيل المباشر ،و لكن تبقى في النهاية خطوطا عامّة يمكن أن تكون أرضية للإثراء والتشاور والحوار والضغط الرصين دون تهوّر باعتبار أن لتونس خصوصياتها تواجه عدّة إكراهات تقتضي تقديم الأهم على المهم ، و لكن على شرط اتجاه النوايا والإرادة نحو السير قدما لإنقاذ تونس الّتي وصل فيها الوضع إلى ما لا يحمد ُ عقباه . ليس الهروب إلى الأمام و لا الشد إلى الوراء كفيلان بإنقاذ تونس الّتي تعفنت فيها الاوضاع بسب سياسة «الترويكات» المتعاقبة، والمطلوب هو العمل على ألا تطول المرحلة الإستثنائية وأن تتشكل الحكومة و تنخرط تونس فعليا في مرحلة الإنقاذ واستعادة سيرها العادي .