والذي يمكن أن يقود إلى انهيار المالية العمومية وكنا قد حددنا بصفة دقيقة هذا السيناريو وأهم المراحل والتطورات التي مر بها.وكنت أكدت أن هذا السيناريو المخيف نتيجة لتزامن وتداخل الأزمة السياسية وعدم الاستقرار والأزمات المالية والذي يقود إلى عجز وانهيار الدولة للإيفاء بالتزاماتها وتعهداتها على جميع المستويات السياسية والمالية والصحية .وقد أكدت وأنه وبالرغم من دخول بلادنا في الطريق الصعب والخطير إلا أن إمكانات الإنقاذ لازالت قائمة وتتطلب برنامجا شجاعا لتثبيت المالية العمومية والإصلاح الاقتصادية .
وقد جاء تقرير مؤسسة فيتش للترقيم السيادي ليشير إلى أن بلادنا لازالت سائرة في طريق السيناريو ولكن إمكانات الإصلاح بدأت تتضاءل وتتراجع.وقد قررت هذه المؤسسة التخفيض في ترقيمنا السيادي ليمر من B إلى –B (ب سلبي) مع آفاق سلبية .وقد أشار تقرير المؤسسة بطريقة ضافية إلى الأسباب التي جعلته يقوم بهذا التخفيض الهام .ولعل المسلة الأهم والتي جاءت في هذا التقرير في شكل أشارت مقتضبة تخص إمكانية لجوء بلادنا إلى نادي باريس لنقاش إعادة جدولة المديونية.وأهمية وخطورة هذه الإشارة أنها لأول مرة تأتي في تقرير رسمي تعتمده الكثير من المؤسسات المالية العالمية والمستثمرون الدوليون في تقييم صحة اقتصادنا ونسبة المخاطرة التي يمثلها .وفي رأيي فإن هذه المسألة تشكل نقطة هامة وستكون في أولى اهتمامات المؤسسات الدولية ولابد لنا من إعطائها الأهمية التي تسحقها في الأسابيع القادمة .
وكنت قد أشرت منذ مدة إلى أن حجم الدين وصل في بلادنا إلى مستويات مرتفعة تتجاوز طاقتنا وإمكاناتنا ودعوت إلى ضرورة تكوين لجنة بين مؤسسات الدولة وبصفة خاصة الحكومة والبنك المركزي وبعض الخبراء من اجل ضبط إستراتيجية واضحة المعالم من اجل التخفيض من عبء المديونية وتدعيم ديمومتها (Soutenabilité).
• في منهجية التقييم السيادي:
لئن يوجد في الساحة العالمية عدد كبير من مؤسسات التقييم السيادي إلا أن ثلاثا منها تهيمن على السوق العالمية وتشكل أكثر من %90 من عمليات التقييم وهي مؤسسات فيتش وموديز وستاندرا اندبوور .ولئن تختلف منهجية هذه المؤسسات إلا أنها تلتقي في العناصر الأساسية التي تعتمدها في تقييم قدرة البلدان على الإيفاء بالتزاماتها المالية تجاه دائنيها .
ويمكن أن نجمع مختلف المؤشرات التي تعتمدها مؤسسات الترقيم في خمس مسائل أساسية.الأولى تهم مستوى الدخل القومي ودخل الأفراد وتعتبر أن البلدان التي لها مستوى عال للناتج القومي الخام والدخل الضريبي لا تعرف صعوبات كبرى في الإيفاء بالتزاماتها.
كما تهتم هذه المؤسسات بمستوى الدين عند البلدان في تقييم قدرتها على الإيفاء بالتزاماتها .
كما تأخذ بعين الاعتبار قدرة الدول على احترام تعهداتها على الأقل خلال العشرية الفائتة.كما تهتم هذه المؤسسات بمستوى التضخم باعتبار انعكاساته على قدرة الدول على الإيفاء بتعهداتها .
والى جانب المؤشرات المالية والاقتصادية فإن منهجية التقييم السيادي تعطي كذلك أهمية كبرى للاستقرار السياسي والمؤسساتي في البلدان .
وقد أضافت هذه المؤسسات مؤخرا مؤشرين هامين وهما مستوى احتياطي العملة الأجنبية وتحويلات المهاجرين من عملة أجنبية .
• قراءة «فيتش» للوضع في بلادنا:
إن تخفيض فيتش للتقييم السيادي في بلادنا يعتمد على قراءة دقيقة وتحليل للوضع المالي والسياسي يرتكز على ثلاث نتائج اساسية .
النتيجة الأولى هي التدهور الكبير للتوازنات المالية في بلادنا .فيشير فيتش إلى التوقعات بتصاعد عجز ميزانية الدولة إلى %8.9 في نهاية هذه السنة .حتى وإن شهد بعض التحسن مقارنة بسنة 2020 والتي بلغ فيها العجز %9.9 وأن تحسن مداخيل الدولة لن يكون كافيا للتقليص من العجز خلال هذه السنة أمام ارتفاع مصاريفها أمام ارتفاع مصاريفها المرتبطة بكتلة الأجور والجائحة والدعم .وستتوصل هذه الهشاشة لميزانية الدولة خلال السنة القادمة أمام ضعف النمو مع التطور الكبير للجائحة وانعكاساتها الاقتصادية .
ولا تقتصر أزمة التوازنات المالية على ميزانية الدولة بل تهم كذلك ميزان الدفوعات.وتشير توقعات فيتش إلى أن عجز ميزان الدفوعات سيرتفع من %6.8 من الناتج القومي الخام سنة 2020 إلى قرابة %8 في نهاية هذه السنة وليبقى في نفس المستوى خلال السنوات القادمة.
وبالرغم من تنامي تحويلات المهاجرين فإن ميزان الدفوعات سيشهد تنامي العجز نظرا لتراجع الصادرات بفعل الجائحة خاصة في ميدان الخدمات .
إلى جانب هشاشة التوازنات المالية الكبرى لبلادنا فإن تقرير فيتش يشير إلى نتيجة ثانية مهمة وهي التأخير الكبير في الوصول إلى اتفاق مع صندوق النقد الدولي نتيجة الصعوبات التي عرفتها مختلف الحكومات في تطبيق برنامج جدي وواقعي للإصلاحات الاقتصادية.
وتتوقع مؤسسة فيتش كما أشرنا إلى ذلك في عديد المناسبات أن بلادنا ستصل إلى اتفاق مع صندوق النقد قبل نهاية 2021.إلا أن هذا الاتفاق سيكون محل نقد ومعارضة اجتماعية كبيرة قد تمنع تطبيقه على ارض الواقع كما كان الشأن بالنسبة للاتفاقين السابقين .
وتكمن مخاطر التأخير في الوصول إلى اتفاق مع صندوق النقد في صعوبة تمويل ميزانية الدولة .وأمام هذا الوضع اتجهت بلادنا إلى التمويل الداخلي الذي مثل %7.3 من الناتج القومي في سنة 2021.وقد ساهم هذا اللجوء إلى التمويل الداخلي في هشاشة النظام البنكي وارتفاع نسبة المخاطرة عند اغلب المؤسسات المالية والبنكية .
النتيجة الثالثة التي يصل إليها تقرير «فيتش» تهم الوضع السياسي والمؤسساتي .وهنا يشير التقرير إلى التطور الذي عرفته بلادنا في الوضع المؤسساتي وفي الحوكمة .
ويشير إلى تحسن مؤشرات محاربة الفساد وأعمال القانون والدور الرقابي الذي تقوم به المؤسسات والأجهزة الرقابية لضمان حسن التصرف في المال العام.إلا أن هذا التحسن في دور المؤسسات والحوكمة والذي كان يمكن أن يلعب دورا في تحسين تقييمنا السيادي قد عرف تراجعا مهما في تأثيره بسبب وضعية عدم الاستقرار السياسي والانقسامات الكبيرة التي شهدها الساحة السياسية والتي ساهمت في فشل قدرة الدولة على ضبط السياسات العمومية والإصلاحات الاقتصادية.
تشير هذه القراءة إلى تدهور كبير في التوازنات المالية وغياب الدعم الدولي السريع وتواصل الأزمة السياسية وأن بلادنا تسير بخطى سريعة على خطى السيناريو اللبناني .وستزيد مسالة المديونية من صعوبة الوضع ومن تعقيده .
• المديونية وشبح نادي باريس:
إلى جانب التخفيض الكبير في الترقيم السياسي لبلادنا فإن خطورة تقرير مؤسسة فيتش طرح لأول مرة إمكانية لجوء بلادنا إلى نادي باريس من أجل إعادة هيكلة المديونية. ولئن وجدت هذه الإشارة طريقها لأول مرة في تقرير رسمي إلا أنها في رأيي تعبر على آراء وأفكار المؤسسات أمام تزايد حجم المديونية في بلادنا .
وتشكل وضعية المديونية وكما أشرنا إلى ذلك في عديد المنسبات مصدر قلق كبير.فتنامي عجز المالية العمومية كان وراء تنامي المديونية والتي ستمر من %72 سنة 2019 إلى %89 في نهاية هذه السنة من الدخل القومي الخام .ويشير تقرير فيتش إلى ضرورة أن نأخذ بعين الاعتبار المؤسسات العمومية والتي تتمتع بضمان الدولة والتي تمثل %16 من الناتج الخام الى جانب متخلدات هذه المؤسسات عند الدولة والتي وصلت إلى %8 من الناتج القومي الخام .
هذه الأرقام تشير بوضوح إلى أن المديونية أصبحت تشكل عبئا ثقيلا على بلادنا وأننا دخلنا في مرحلة جديدة وهي عدم استدامتها أي عدم قدرة بلادنا على الإيفاء بها .وقد ركز تقرير فيتش على هذه المسالة بطريقة مباشرة بعد أن أصبحت مصدر قلق وانشغال عند المؤسسات الدولية .فقد أشار تقرير صندوق النقد الدولي في فيفري 2021 إلى أن المديونية التونسية ستصبح غير مستدامة في غياب برنامج إصلاح اقتصادي جدي يقع تحديده بمشاركة كل الأطراف الاجتماعية والسياسية .ويضيف تقرير فيتش في هذا المجال مسالة خطيرة مرت مر الكرام حتى على مسؤولينا وهي انه لا مهرب لبلادنا في ظل غياب برنامج إصلاحي من المرور عبر بوابة نادي باريس وإعادة هيكلة الدين حتى قبل إمضاء اتفاق مع صندوق النقد الدولي والمؤسسات المالية العالمية .
إن هذا التقرير وفي لغة فيها الكثير من الديبلوماسية يضعنا أمام الواقع المرير للوضع المالي ولاقتصادي والذي نحاول الهروب منه ومواصلة حروبنا السياسية الصغيرة وانتصاراتنا الوهمية .
فبلادنا تسير بخطى ثابتة نحو السيناريو اللبناني والانهيار المالي مع تضاؤل فرص الإنقاذ وإمكانية المرور المقيت أمام نادي باريس .
إن اللحظة التي نعيشها اليوم في المجال المالي هي لحظة فارقة في تاريخ الدولة الوطنية كما هو الآن في المجال الصحي .ولكني أؤكد أن مجال الإنقاذ بالرغم من تضاؤله لازال قائما .
فإما أن نكون أو لا نكون.