نحن لا نجادل في الحق الدستوري والقانوني لرئيس الحكومة في التعيينات في الوظائف العليا التي تعود إلى اختصاصه،ولكننا نناقش في فلسفة التعيينات وأهدافها ومراميها وفي مدى تطابقها مع النجاعة والعقلانية .
لنتجاوز مسألة الغياب الكلي لكل استباق للنتائج المتوقعة بوضوح في هذا التعيين الأخير على رأس الوكالة وإلى سخف محاولة فرضه بالقوة العامة والحال أن الحكومة لم تتمكن بعد – ولن تتمكن – من فرض تعيين آخر على إذاعة «شمس أف-أم» المصادرة ،ورغم هذا لا يتعظ أحد وتواصل الحكومة السير على نفس النهج ربما اعتقادا منها بأن الصحفيين لا يملكون «فانة» يمكن غلقها حتى يسمعوا أصواتهم ويفرضوا مطالبهم ..لنتجاوز كل هذا -على أهميته – ولنحاول معرفة دوافع هذا الإصرار الغريب على فرض أمر واقع مرفوض في الأذهان وفي الأعيان كذلك ..
أمران أساسيان حكما الغالبية الساحقة للتعيينات في هذه العشرية الأخيرة : الولاء والتمكين،والأمر هنا لا يخص المؤسسات الإعلامية العمومية أو المصادرة بل أن كل مفاصل الدولة والإدارة لم نتج من هذه الرغبة المزدوجة والتي تترجم تصور كل أغلبيات الحكم في هذه العشرية لمفهوم الحكم ذاته،فهو ليس عندهم إصلاحات وسياسات عمومية جديدة بل وضع اليد على أهم مفاصل الدولة وحتى عندما لا يكون المعنيون من أصحاب الولاءات المباشرة والشبكات الزبونية لأحزمة الحكم المتعاقبة،يراعى فيه في كل الأحوال ألا يكون معيقا لسياسة التمكين،ومن ما نع (ت) أو اعترض (ت) يعزل ولو بعد حين ويوضع بدله من لا يعترض ،بل من يبارك ويزكي ..
وإحقاقا للحق سياسة الولاء ليست امتيازا حصريا لأجنحة السلطة هذه إذ قل و ندر أن عيّن شخص خلال هذه العشرية لكفاءاته فقط. ولكن ما تمتاز به حركة النهضة على بقية شركائها في الحكم الحاليين أو السابقين هو اعتمادها على سياسة التمكين والتي تتجاوز وضع شبكة من الموالين لها في مختلف أجهزة الدولة إلى تحويل هذه الشبكة إلى قوة مبثوثة تصدّ المخاطر وتجلب المنافع للحركة الإسلامية ..فالتمكين بهذا المعنى هو إستراتيجية لوضع اليد بصفة دائمة على أهم مفاصل الدولة ..
ما الذي يفسر تسارع نسق التعيينات لا في مؤسسات الإعلام العمومي أو المصادر بل وفي عدة وزارات ومنشآت عمومية لمسؤولين غير معروفين للرأي العام بانتماءاتهم أو صداقاتهم النهضوية،ولكن كلّما تمكنّا من حصر دقيق للشخصية المقترحة إلا واكتشفنا الوشائج الوثيقة التي تربط بينها وبين الحركة الإسلامية؟
بعض العناصر تفسر لنا الشارع الجديد :
• ماهو ممكن مع حكومة المشيشي قد لا يكون ممكنا مع حكومة جديدة حتى لو شاركت فيها حركة النهضة،ثم إن هذه الحكومة هشة وقد لا تعمر طويلا وعليه ينبغي اقتناص كل الفرص الآن .
• العداء السافر الذي أصبح يظهره رئيس الدولة لحركة النهضة هو بدوره يستحثها لتحسين مواقع وجودها خاصة في الإدارة علها تكون غدا إحدى القلاع المنيعة لحماية النهضة من هجوم كاسر .
• الاحتمال القوي لتغيير موازين القوى في الانتخابات العامة القادمة ولهذا نرى أن المعنيين الأساسيين بهذه الشبكة ليسوا من نهضويي الصف الأول ولا حتى الثاني ..إنها – محاولة لبناء شبكة زبونية مرنة تكون قادرة على الصمود أمام التراجع الانتخابي والسياسي واحد عناصر إستراتيجية افتكاك السلطة من جديد . ولكن مع كل هذا تبقى للمؤسسات الإعلامية العمومية والخاصة كذلك جاذبية كبرى في إرساء هذه الشبكة وفي تهيئة المناخات الذهنية إما لاستمرار هذه الأغلبية أو لتغييرها، وهنا نرى استراتيجيات عدة تذهب من التدجين الفظّ عبر سعي لفرض تصور إعلامي ما من خارج المهنة للعمل بمقتضى مسلمات جديدة وتصل هذه الاستراتيجيات إلى الاحتواء المخاتل أي اتقاء شر الإعلام والسعي لتوجيه كل سهامه نحو خصومنا السياسيين فقط لا غير ..
هذه السياسات والاستراتيجيات ليست جديدة فهي قد ميزت جل ردهات هذه العشرية ولكنها كلها فشلت دون أن ننكر أنها حققت اختراقات هامة للمشهد مستغلة في ذلك حاجة أو خوف أو طمع بعض الماسكين بمؤسسات إعلامية،ولكن مرّد هذا الفشل العام هو عدم انخراط وسائل إعلام مهمة لا في التدجين ولا في الاحتواء وخاصة وقبل كل شيء رفض الغالبية الساحقة للإعلاميين لكل سيطرة سياسية أو مالية على المهنة وتضامنهم الكامل كلما كانت حرية التعبير في خطر ..
ورغم هذا تواصل هذه الحكومة ،كسابقاتها، نفس السياسات الخاطئة اعتقادا منها أن «الدوام ينقب الرخام» ولكنها تنسى أن «الدوام» هو للمهنة ولأهلها مهما كانت السياقات داخل المهنة وخارجها.
على هامش محاولة الحكومة المرور بقوة في وكالة تونس إفريقيا للأنباء: الإعلام بين سياسات التدجين ووضع اليد والتمكين
- بقلم زياد كريشان
- 09:12 15/04/2021
- 1655 عدد المشاهدات
ما حصل يوم أول أمس في وكالة تونس إفريقيا للأنباء يتجاوز الفضيحة ليبين لنا مدى غطرسة منظومة الحكم وضعفها في نفس الوقت .