بين المُكلِّفِ والمُكلَف وتغيرت تبعا لذلك التحالفات وموازين القوى وبعد أسابيع قليلة اقترح الاتحاد العام التونسي للشغل مبادرة للحوار الوطني يطلقها رئيس الدولة. وحصلت تبعا لذلك اتصالات ومشاورات انتهت بتقديم الأمين العام للمنظمة الشغيلة مشروعا كتابيا لرئيس الدولة في أواخر نوفمبر الماضي..مقترح بدا وكأنه حظي بالقبول وأصبح بالتالي قيد التحميل..
ما الذي يفسر كل هذا الانتظار والارتباك والمراوحة بين القبول الشكلي بمبادرة الاتحاد والرفض لها ؟
في عالم السياسة العادي يكون رئيس الدولة هو المستفيد الأكبر من هذا الحوار لأنه يستعيد به زمام المبادرة بعد أن افتكها منه التحالف البرلماني الحكومي الجديد. كما أن صاحب قرطاج بإمكانه إحراج كل خصومه وذلك بوضعهم أمام مسؤولية إنقاذ البلاد اقتصاديا واجتماعيا وإدخال التعديلات الضرورية للحوكمة السياسية للبلاد..
لماذا إذن لم يقبل رئيس الدولة – إلى حدّ الآن– هذه الهدية السياسة من اتحاد الشغل ؟
الجواب نجده في المشروع الهلامي لقيس سعيد الذي يريد أن يغيّر قواعد اللعبة رأسا على عقب وأن يتجاوز «المنظومة» باعتبارها مركز الفساد وخيانة الشعب ..
فكرة «الشعب يريد ويعرف ماذا يريد» تعني مباشرة نزع كل مشروعية على أفكار ومقترحات وحلول النخب، وأن الحلول الصحيحة والمصطفة إلى جانب الشعب لا تأتي إلا من الشعب لا ممّن يدعون تمثيله حتى لو كان ذلك بواسطة الانتخابات.. فكل الانتخابات فاقدة للمشروعية باعتبار أنها تدفع بنخبة سياسية محترفة إلى مقاليد الحكم ..كل الانتخابات إلا الانتخابات الرئاسية التي دفعت بإرادة الشعب إلى قصر قرطاج رغم أنف كل النخب والمتآمرين .
لقد تردد قيس سعيد في قبول مبادرة الاتحاد لأنها كانت ستضطره إلى ولوج عالم السياسة التقليدي وإلى حوار مع النخب السياسية والاجتماعية ومع الشكل الذي يمقته وهو الديمقراطية التمثيلية .فمبادرة الاتحاد في جوهرها، هي حوار مع الأحزاب الممثلة في البرلمان خاصة والمنظمات الاجتماعية وهياكل الدولة والنخب الاقتصادية والإدارية..ويعتقد قيس سعيد انه لو أطلق حوارا وطنيا وفق تصور اتحاد الشعل فإنه سيكون قد قبر مشروعه السياسي إلى الأبد..
اعتقد قيس سعيد أنه قد وجد الحلّ في التطبيقة التي اقترحها عليه وزير المالية السابق نزار يعيش :
الشباب يقترح الحلول من القاعدة ويتولى «تقنيون» تنظيم هذه الاقتراحات وتبويبها وإدخال الانسجام عليها وهكذا يعبّر الشعب مباشرة على إرادته ويتم تحييد كل الأطر والأجهزة والنخب التي تدّعي الحديث باسمه ..
لقد رأى رئيس الدولة في هذه التطبيقة» الحلّ السحري لتجسيد تصوره للحكم ولطريقة أخذ القرار والواضح انه تم تكليف الوزير السابق منذ أشهر لإيجاد «الشكل « المناسب للحوار الذي يريده رئيس الجمهورية ولكن مبدأ الرغبة سرعان ما اصطدم بمبدإ الواقع إذ اعتبرت المنظمة الشغيلة انه تم الالتفاف على مبادرتها واعتبرت أنها غير معنية بمخرجاته الافتراضية لو لم يتم وفق التصور الذي بلورته في الوثيقة التي قدمتها منذ أربعة أشهر إلى الرئاسة ..
وهنا وجد قيس سعيد نفسه أمام مأزق تاريخي يشبه – مسرحيا – التراجيديا الإغريقية: إما الوفاء للفكرة الهلامية ومحاولة فرضها كأمر واقع ولو قامت ضده كل المنظومات التقليدية بما في ذلك حلفاؤه في اتحاد الشغل وفي الكتلة الديمقراطية أو التنازل للأصدقاء فيجد نفسه في نفس الفضاء مع الخصوم والأعداء،فضاء السياسة التقليدي بمشاوراته ومناوراته وتحالفاته المتقلبة..فضاء لا توجد فيه انتصارات مطلقة ولا تربح فيه الحروب دون خسائر مهمة..
أيا كان الموقف النهائي لرئيس الدولة وللشكل الذي سيتخذه الحوار الوطني – هذا لو انعقد بالفعل – فإن صاحب قرطاج قد أكل كامل رغيفه الأبيض، رغيف ملكة القول دون المسؤولية عن الفعل ..
لقد حشر اتحاد الشغل –موضوعيا– قيس سعيد في الزاوية وفرض عليه بصفة نهائية أن يختار بين أن يكون قيس سعيد أو أن يكون رئيسا للجمهورية وأن يقبل تبعا لذلك بكل اكراهات المنصب والسلطة ..
المعطى الوحيد والأساسي في هذه المعادلة السياسية والبسيكولوجية أن الأيام أمام تونس معدودة وأن نافذة الإنقاذ الممكن بصدد التقلص التدريجي وان قيس سعيد سيدخل نهائيا في الربح كما في الخسارة أيضا ..
حول اطلاق الحوار الوطني من عدمه: قيس سعيد والمأزق التاريخي
- بقلم زياد كريشان
- 10:26 30/03/2021
- 1724 عدد المشاهدات
تعود الأزمة السياسية في مظهرها الأخير إلى ما قبل سبعة أشهر أي منذ الخطوات الأولى لتشكيل حكومة المشيشي حيث انفرط حبل الثقة