مظاهر أزمة البلاد أكثر من أن تحصى لعل أهمها هشاشة النمو الاقتصادي وتراجع أداء الدولة وعدم قدرتها على التخطيط والإنجاز ذي النفس الطويل، وكل هذا قبل أزمة الكورونا أما بعدها فأوضاعنا الاقتصادية سيئة للغاية وينتظرنا في الأسابيع والأشهر القادمة تسونامي اجتماعي لا مثيل له في تاريخنا الحديث .
في المقابل ابتليت البلاد بمنظومة سياسية فيها أفراد نزهاء ووطنيون وأكفاء في كل الاتجاهات والتيارات ولكن المنظومات السياسية والحزبية والحوكمة الداخلية للأحزاب ومؤسسات الدولة من إسوإ ما يمكن أن يكون فهيمنت النظرة الغنائمية للسلطة على حساب خدمة الصالح العام، وما زاد الطينة بلة كما يقال هو عناد كبار المسؤولين في مختلف الأحزاب السياسة وعدم إقرارهم بأنهم مازالوا غير ناضجين لحكم البلاد وأنهم لم يتبعوا السبل الموصلة ديمقراطيا كأن يتدربوا بداية على الحكم المحلي قبل أن يتقدموا لحكم بلاد تعيش أزمات متظافرة ومعقدة.
وما فاقم الأزمة بعد الانتخابات العامة الأخيرة إفراز الصندوق لأحزاب متناحرة متنافية سهلت من حيث خططت لهذا ام لا لاختراق بلادنا وأمننا القومي في لعبة المحاور الإقليمية الخطرة ..
بعد أيام قليلة نحيي الذكرى الأولى لوفاة الرئيس الراحل الباجي قائد السبسي لنتذكر معها أن البلاد تراوح مكانها منذ حوالي ثلاث سنوات وهي من أزمة سياسة إلى أخرى وما استقالة الياس الفخفاخ - رغم ظروفها الخاصة – إلا حلقة من هذه الحلقات ..
منذ يوم أمس بدأ احتساب الأيام العشرة المخولة دستوريا لرئيس الجمهورية لإجراء المشاورات الضرورية من اجل اختيار الشخصية الأقدر على تشكيل حكومة جديدة.
لا نبالغ إن قلنا بأننا أمام الأيام الأهم والأخطر لكامل هذه العهدة الرئاسية وأن إخفاق رئيس الدولة في الاختيار سيكون كارثيا عليه وعلى البلاد برمتها ..
أمام قيس سعيد خياران «طبيعيان» كلاهما سيء ويزيد في تعميق أزمة البلاد وفي تأزيم منظومة سياسية مأزومة على الأقصى فإما أن يقر اختيار الترويكا الجديدة : النهضة وقلب تونس وائتلاف الكرامة وهذا سيدخل البلد داخليا وخارجيا في نفق مظلم أو أن يعمد إلى محاولة إيجاد حزام سياسي موافق لاختيارات الدور الثاني في رئاسية 2019، وهذه أيضا طريق مسدودة تفاقم الأزمة ولا تملك مقومات الديمومة.
رئيس الدولة مطالب بالخروج من منطقة رفاهه، منطقة أستاذ القانون الدستوري الذي يطبق فصول الدستور وفق شكلانية مشهدية غير متلائمة بالمرة مع طبيعة المرحلة التي تمر بها البلاد.
تونس بحاجة إلى حوار حقيقي عميق بين أهم الفاعلين السياسيين والاجتماعيين .
لو عمد رئيس الدولة إلى نفس أسلوب التعيين الأول بالمراسلة الكتابية للكتل والأحزاب البرلمانية ثم اختيار ثلاثي أول فاختيار نهائي سيكون قد عمق الأزمة من حيث يعتقد انه يقوم بدوره الدستوري إذ هو هنا بين أمرين : اختيار مرشح الترويكا الجديدة أو اختيار مرشحه هو وفي كلتا الحالتين سنمر إلى السرعة القصوى في تفاقم أزمة البلاد ومنظوماتها السياسية ..
لا شيء يعوض الحوار المباشر ومقارعة الحجة بالحجة وتدارس كل الإمكانيات واختيار الأفضل لمصلحة البلاد ، لا لرفاه الأحزاب .وهذا الحوار لا يملك مفاتيحه وإطاره إلا رئيس الدولة فهو المخول دستوريا بالدعوة إليه وباحتضانه ولا شيء يمنعه من دعوة أصحاب الرأي والكفاءات العليا للبلاد خاصة تلك التي تملك شبكة واسعة من العلاقات الدولية ونظرة أرحب لمشاكل البلاد وللحلول الممكنة لها.
وحده رئيس الجمهورية يملك القدرة والمشروعية لإقناع أهم الكتل البرلمانية والأحزاب السياسية بضرورة التنازل لبعضها البعض وبضرورة هدنة سياسية وكذلك اجتماعية (وهنا الدور المحوري للمنظمات الوطنية) وانه من الضروري خلق الظروف الملائمة لإمكان قيام حكومة قوية وذات كفاءة عالية لإنقاذ اقتصاد البلاد ولحسن الاستعداد للتسونامي الاجتماعي مع ضبط أمننا الداخلي والخارجي وحشد كل الدعم لاقتصادنا وبأقصى سرعة ممكنة ..
رئيس الدولة هو الذي يمكن أن يقنع الأحزاب البرلمانية بأن حكومة حزبية ستكون كارثة إضافية في هذا الظرف بالذات لا لعجز أصلي بل لأن أهم كفاءات البلاد في مختلف الميادين ترفض اليوم العمل تحت إمرة الأحزاب السياسية ومكاتبها التنفيذية ومجلس شوراها..
يمكن لرئيس الدولة وفي أيام قليلة أن يصل إلى أرضية واسعة وقاعدة صلبة لإنقاذ البلاد ، وهذا بالطبع يتطلب منه قبول لعب دور سياسي لا الاكتفاء بدور دستوري شكلاني لا يتلاءم البتة مع دقة الأوضاع التي تمر بها البلاد ..
يقينا إن أهم الأحزاب (وخاصة النهضة وحلفائها) لن تقبل بسهولة بالتنازل عن ممارسة الحكم مباشرة لمدة سنتين أو أكثر وهي إن تركت لحالها فستواصل على نفس نسق صراعاتها وتموقعاتها والحروب الضارية بينها .
وحده الرئيس الجمهورية قادر ، لو أراد ، على الحد من هذا الانحراف الحزبوي شريطة ألا يكون الحل الذي سيقترحه على الجميع هو انتصار لرأيه ولتصوراته لأنه يفقد بذلك القدرة على إدارة الحوار ويصبح طرفا من بين الأطراف لا إطارا ترشيديا لأفضل حل وطني ممكن اليوم ..
لا يملك رئيس الدولة وقتا طويلا للتفكير فإما أن ينخرط بكل قوة وجهد في هذا الاختيار الصعب دون التفريط في أية ساعة أو أن نواصل على نفس المنهج وبنفس الطريقة وعندها لن تعصف الأزمة بالمنظومة الحزبية فقط بل بكامل المنظومة التي جاءت بها انتخابات خريف 2019..