بالبقاء في القصبة لعهدة نيابية كاملة وكان حاملا لأحلام إصلاح فعلية ولكن السياسة لا ترحم وتصرفه السيئ في ملف شبهة تضارب المصالح أنهى تجربته في الحكم وربما في السياسة أيضا ..وهذا لا يعني بالطبع أن خصومه كانوا من جماعة «الحمائم البيض» ومن أنصار النزاهة والشفافية ولكن التعلل بمكر الخصوم وبخبثهم أحيانا لا يمكن أن يغطي على الأخطاء وأن يكون شرط نجاح كاف في تونس اليوم .
ولكن من الظلم القول بأن الأزمة السياسية بدأت مع ملف شبهة تضارب المصالح، فهي أعم وأشمل وأعمق من هذا ويمكن أن نقول أنها بدأت قبل الانتخابات العامة في الخريف الماضي وأن هذه الأزمة تعود إلى ما لا يقل عن ثلاث سنوات مع بدايات الخلاف الحاد بين رئيس الحكومة السابق يوسف الشاهد ونجل الراحل الباجي قائد السبسي بل يمكن أن نعيدها إلى أربع سنوات خلت مع قرطاج1 والتي أطاحت بحكومة الحبيب الصيد وأدخلت البلاد منذ تلك الفترة في مرحلة أزمة وتصدع السلطة التنفيذية ومنظومة الأحزاب الحاكمة أيضا.
ولئن وضحت الانتخابات العامة في خريف 2019 المشهد الرئاسي لكنها عمقت أزمة المنظومة الحزبية والبرلمانية بفعل التشتت والصراعات ولعبة المحاور الإقليمية بما يجعل الأزمة السياسية أعمق واخطر بكثير من استقالة رئيس حكومة وذلك أيا كانت الأسباب الكامنة وراءها ..
والسؤال المحوري اليوم هو هل يمكن الخروج من هذه الأزمة مع الإبقاء على أهم عناصرها ؟ هل يمكن تصور حكومة جدية بكفاءات عليا تعمل لإنقاذ البلاد وهي واقعة تحت نزوات برلمان فقد بوصلته بوضوح وهو بصدد الغرق في صراع وتناقضات كتله ؟
هنالك في رأينا حلان لا ثالث لهما لو رمنا بداية الخروج من هذه الأزمة السياسية الخانقة ولو بصفة جزئية حتى تتفرغ الحكومة القادمة لإنقاذ البلاد اقتصاديا واجتماعيا .
• يتمثل الحل الأول والجزئي في الاتفاق خلال هذه الأيام العشرة المتاحة لرئيس الدولة دستوريا لإجراء المشاورات الضرورية على شخصية وطنية مستقلة من الحجم الثقيل لديها دراية دقيقة وعميقة بأوضاع البلاد الاقتصادية والاجتماعية وعلاقات دولية متينة ورؤية إصلاحية متناسقة ثم يعطى كل الصلاحيات لتشكيل فريق من أفضل الكفاءات الوطنية وأن تدعى كل الكتل النيابية لمنح الثقة لهذه الحكومة على أساس برنامج واضح ومرقم وان يتم تقييم أولي لأدائها بعد سنة ونصف من العمل أي في بداية سنة 2022.
وفي المقابل يتعهد رئيس البرلمان راشد الغنوشي بالاستقالة من منصبه في مفتتح السنة النيابية القادمة ويتم الاتفاق بين كل الكتل على شخصية تجميعية لرئاسة المجلس حتى ننزع قدر الإمكان فتيل النزاعات المستمرة تحت قبة باردو ..
• أما الحل الأشمل فهو في إعادة بناء المنظومة السياسية برمتها بتنقيح النظام الانتخابي وإدخال التعديلات الدستورية الضرورية لوضع حد لثنائية السلطة التنفيذية.
ولكن هذا الحل يتطلب إحكاما فائقا لإدارة المفاوضات السياسية خلال هذه الأيام العشرة المتاحة دستوريا أمام رئيس الدولة إذ ينبغي عليه في هذه الصورة إقناع جل الكتل البرلمانية بان الحل الأمثل هو في حل البرلمان عبر رفض منح الثقة لرئيس حكومة قادمة حفاظا على شكلانية الإجراءات ولكن في نفس الوقت يتعهد البرلمان الحالي بتغيير القانون الانتخابي وبانتخاب أسماء وازنة وذات مصداقية للمحكمة الدستورية والتفكير في تنقيح النظام السياسي بما يضمن وحدة قيادة السلطة التنفيذية والفكرة الأساسية هي أن يكون الفائز في التشريعية السابقة لأوانها قادرا على الحكم الفعلي وأن نتجنب نظام القائمات باعتماد النسبية وأكبر البقايا كأن نتبنى الفكرة التي طرحها أساتذة أجلاء في القانون الدستوري من بينهم الصادق بلعيد وأمين محفوظ وهي دوائر انتخابية بشخصين فقط (امرأة ورجل ضرورة) بالأغلبية المطلقة على دورتين.
• ولكن لعل الحل الجزئي الأول سيكون هو الأفضل لو التزم الجميع بهذه الحزمة من الإصلاحات والإجراءات : حكومة مستقلة قوية مدعومة من البرلمان وفق برنامج إنقاذي وتعطي مهلة لا تقل عن السنة ونصف السنة أو السنتين قبل تقييم الأداء والنتائج واستقالة الغنوشي من رئاسة المجلس وتعويضه بشخصية توافقية وإصلاح المنظومتين الدستورية والانتخابية والقبول بمرحلة انتقالية ثانية تعطى فيها السلطة التنفيذية الفعلية لهذه الحكومة المستقلة حتى تدخل البلاد سنة 2024 في منظومة قانونية ودستورية جديدة إما رئاسية او برلمانية ولكن لابد من القطع مع هذا النظام السياسي الهجين ومع نظام انتخابي يشتت الأصوات ويميع المسؤوليات.
الواضح على كل حال أن استقالة الفخفاخ لا تمثل بالمرة نهاية الأزمة السياسية الخانقة التي تمر بها البلاد .