هل أن تونس تسلك الطريق الصحيح لبناء دولة القانون و المؤسسات؟ أم هل أن التونسيين في معركة حقيقية بين الطامحين في إرساء هذه الدولة وبين السالكين لطريق تقويض دولة القانون و المؤسسات و إحلال ذلك بسلطة الحاكم بأمره؟
المتابع للسنوات التسع الماضية يلاحظ أن البناء ما فتئ يتداعى و أنه يغلب على مسار الدولة التونسية إصرار المراهنين على التفكك والفوضى و في مقدمتهم حركة النهضة و الموالين لها العرضيين أو الدائمين ، على عدم الإنخراط في بناء دولة مدنية تحكمها المؤسسات و يسودها القانون .
لا نتبين هذا في المبادرات «السياسوية» الّتي تظهر بين الفينة والأخرى لتحويل النظر عن حقيقة التوجهات، بل نتبيّن ذلك من المحاولات المنظمة ذات الأهداف الاستراتيجية خاصة لحركة النهضة ، الّتي عملت منذ التأسيس على التشريع الضامن لبقائها عبر تفكيك مؤسسات الدولة و إضعافها سواء أكانت هي في داخلها أو كانت خارجها، وذلك بغاية السيطرة عليها لخدمة أهدافها أو لتحييدها وإنهاكها.
كل هذا يتم تحت شعار المصلحة الوطنية و البحث عن توحيد التونسيين لا بمفهوم التفاعل الإيجابي بين كل الأطراف السياسية والقوى الوطنية ، بل في إتجاه تكريس أحادية الفكر و التوجهات، للهيمنة وفرض سياسة الأمر الواقع.
والطريق لتحقيق ذلك يكون عبر المنهجية السياسية باختراق القوى السياسية الفاعلة أو المرشحة بأن تكون فاعلة و تقزيمها بكل الوسائل ،و الإنخراط الظاهر في مقاومة الفساد بموازين مختلفة لتوظيف الملفات الكبيرة للمساومة السياسية (الفساد السياسي)، ومتابعة الشد و الجذب في الملفات المؤثرة كملف ما أصبح يعرف بملف رئيس الحكومة أو نبيل القروي أو الملفات الاخرى التي لا تحصى ولا تعد والّتي كثيرا ما تنتهي بحلول ظرفية ولكنها تقزّم قوة القانون تحت غطاء «التوافق».
قلناها و نعيدها أنه لا طائل من ترسانة قانونية لا تطبق أو من قوانين توضع على المقاس في غفلة من الجميع ، من ذلك أغلب التشريعات ذات الأبعاد السياسية، التي أدى تضاربها أو صياغتها الفضفاضة أو المفخخة إلى الكوارث الّتي تعيشها تونس. ومن أهم هذه الملفات الّتي شغلت الرأي العام و رجال الأعمال والنخبة السياسية مسارالعدالة الإنتقالية والمصالحة الوطنية والذي إعتقد التونسيون أنه المسار «الثوري « الّذي سيكون أساسا للعمران بتكريس قيم العدل والعدالة، وأنه العمود الفقري لإحداث التغيير الكفيل بإنتقال ديمقراطي سليم ووضع دعائم دولة القانون والمؤسسات.
إن العدالة الانتقالية والمصالحة الوطنية تم الحياد بهما و تحويلهما إلى منظومتين للمساومة والتشفي والتمعش والإستغلال المفرط للسلطة ، لتُبقيا على منابع متجددة للإستثراء وسيوفا مسلولة للمساومة وكوابح للمبادرة و الإستثمار و تقوية الدولة .
فبعد أن قرّرت هيئة الحقيقة والكرامة التمديد في مدّة عملها و جدت لنفسها كل التعلات كي تبقى كل الملفات مفتوحة بمواصلة محاكمة من حوكموا و إستعمال سياسة «العصاء والجزرة» في مفهوم جدبد : العصا لمن كانوا في السلطة و لو في مواقع جانبية، والجزرة للحالمين بالثروة والتعويضات .
ما ذا جنت تونس من هذا المسار ؟ لقد زاد في التفرقة بين التونسيين و لم يحقق أي هدف. بل يكاد كل الحقوقيين يجمعون على أنّ كل المعالجات كانت خاطئة وأن الـ«علّة» في قانون العدالة الانتقالة ذاته .هذا الأمر تمّ التنبيه إليه عند النظر في مشروع قانون العدالة الانتقالية و بعد صدوره ، ولكن كان الجميع منهمكين في الشأن السياسي والانتخابي، باستثناء الّذين كانوا يفكّرون في الأطر الموازية الرامية لإضعاف المؤسسات المركزية للدولة الّذين أصرّوا على تمرير مشروع قانون العدالة الانتقالية بصياغته الفضفاضة وبأحكامه المُركبة لمسار القضاء والعدالة عموما.
إن الإرادة المفقودة في تأسيس دولة القانون والمؤسسات لم تعد متوقفة على الأحزاب السياسية ، بل أصبحنا نتابعها في كل المجتمع السياسي والمدني الذي إنصرف بسبب التهرئة إلى متابعة الشأن السياسي اليومي وانساق وراء إعلام إثارة ، بإستثناء قلة بقت تصارع ضدا لتيار. و الدليل على هذا التخلي ، الصمت إزاء الكم الهائل من المبادرات التشريعية ،و منها الّتي قدمت لتنقيح القانون عدد 53 المتعلق بإرساء العدالة الإنتقالية بغاية إحداث دوائر استئنافية لأحكام الدوائر الخاصة بالعدالة الإنتقالية بدعوى إحترام التقاضي على درجتين و تحويل مراقبة التنفيذ من هيئة الحقيقة والكرامة إلى الحكومة. هذه المبادرة قدمت من لجنة شهداء الثورة وطلبت إستعجال النظر ،و في ذلك إمعان في تمطيط المسار إلى ما لا نهاية و إبقاء المشمولين بإجراءات هذه الدوائر في وضع غير مستقر متسم بالترهيب و عرضة للإبتزاز السياسي.
والأمر لا يتوقف عند هذا الحد بل أن التقرير النهائي لهيئة الحقيقة والكرامة الّتي مازالت توصياتها رغم نهاية مهامها ، تترك الفتائل مشتعلة ،مغرية بطلب صرف التعويضات عبر صندوق الكرامة.
إن كافة المبادرات والتجاوزات والإفراط في السلطة يتم تحت أنظار الهيئات والمنظمات الحقوقية و أمام أنظار النقابات والجمعيات والهيئات المعنية بمرفق القضاء والعدالة و بحقوق الإنسان وفي مقدمتها المجلس الأعلى للقضاء و الهيئة الوطنية للمحامين والجمعيات الممثلة للقضاة .
إن ما زاد الطين بلّة غياب المحكمة الدستورية أو الحرص على تغييبها ، بعد أن أصبحت هي الأخرى خاضعة لإقتسام النفوذ فيها ممّا يشكك في إستقلاليتها قبل تركيزها ، لأن لا أحد من الماسكين بالسلطة التشريعية يؤمن بقوة المؤسسات وعلوية القوانين ،و لو كان الأمر كذلك ، لكانت تركيبة المحكمة الدستورية مرتبطة بأعضاء ممثلين لهياكل قضائية و لهياكل مركزية في الدولة و لمنظمات دستورية و هيئات مهنية ، غير مرتبطة بهوية الأشخاص و لتزكية الكتل النيابية .
من هنا يبدو البعد عن دولة القانون والمؤسسات من تهاطل المبادرات لوضع قوانين على مقاس الطرف الأغلبي في إنتظار ظهور أغلبية أخرى ..و إذا طال هذا طال الدهر في إنتظار الإستقرار و الطمأنينة لدولة عادلة يتسع صدرها للجميع في ظل قبة قانون واحدة يتساوى فيها الجميع .دون أي تمييز ...