مازالت تسيل الحبر الكثير وتأتينا - أيضا - بالجديد ..
لو رمنا تلخيصا سريعا لما نعرفه اليوم لقلنا بأن الياس الفخفاخ قد أسس – أو ساهم في تأسيس- شركة بعد خروجه من وزارة المالية في 2014 وأن هذه الشركة قد سبق لها وأن اشتغلت مع الدولة منذ سنة 2017 ثم دخلت في مجمع مع شركة أجنبية للتقدم لنيل مطلب عروض وكان هذا المجمع من الشركات التي فازت به في نهاية السنة الفارطة ثم نشر على المنصة الافتراضية للصفقات العمومية في أفريل الفارط ..
لو وقفنا عند حدّ فوز هذا المجمع بطلب العروض في نهاية السنة الفارطة لقلنا بأنه لا وجود لأي إشكال قانوني وأن العملية تمت – وفق ما نعلم- في إطار المنافسة الشريفة وحسب ما يفترضه القانون ..
الإشكالات تبدأ بعد أسابيع قليلة من الفوز بهذه الصفقة العمومية ..
لا يخفى على أحد أن الياس الفخفاخ قد لعب دورا ما في طرح اسمه على الساحة – أو عند بعض الأحزاب – ليكون مرشحا لرئاسة الحكومة وأنه سعى إلى ذلك وهذا طموح سياسي مشروع لا غبار عليه ولا يمكن أن يصبح رئيس حكومة من لا طموح له ومن لا يعتقد انه لديه ما يقدمه لبلاده من موقع ممارسة السلطة التنفيذية ..ولكن إن كنّا نجهل آنذاك أن لالياس الفخفاخ أسهم في مجمع تأسس لنيل هذه الصفقة العمومية فلا نخال لحظة واحدة أن رئيس الحكومة المكلف آنذاك كان يجهل هذا ولا نريد أن نتصور أنه لم يفكر ، من الناحية المبدئية لا القانونية الصرفة، في وجود تضارب مصالح واضح بين وضعيته كرئيس حكومة قادم أي كرئيس للإدارة وبين وضعيته كصاحب أسهم له منابات يحصل عليها من الدولة عندما يوزع هذا المجمع الأرباح على المساهمين ، خاصة وان بداية تنفيذ المشروع ستكون خلال فترة وجوده في القصبة ..
لسنا ندري بالضبط كيف فكر صاحب القصبة الجديد في كل هذا ونحن لا نرجح انه كان سيء النية أو أراد أن يحقق منافع بالالتواء على القانون ولكنه لم ير كذلك الإشكال الضخم في أن يصبح في نفس الوقت رئيسا للإدارة واحد المنتفعين ، بعد توزيع الأرباح، من هذه الإدارة ذاتها ويبدو أن من استشارهم قد زينوا له أمرا غريبا وهو الفصل بين الشخصية القانونية لهذا المجمع الذي يشتغل مع الدولة والشخصية الفردية لالياس الفخفاخ أى أنه عليه الانضباط للفصلين 17 و18 من قانون التصريح بالمكاسب والمصالح وبمكافحة الإثراء غير المشروع وتضارب المصالح واللذين ينصان – فيما ينصان عليه – على ضرورة التخلي على كل مهمة تسييرية أو تداولية في شركة خاصة (الفصل 17) مع تكليف الغير بالتصرف في الأسهم التي يمتلكها (الفصل 18) وهذا ما فعله تماما الياس الفخفاخ ،ولكن حصل تأويل غريب للفصل 20 من نفس القانون والذي ينص صراحة على انه «يحجّر على الأشخاص المشار إليهم (من بينهم رئيس الحكومة وكل الوزراء ) أثناء ممارسة مهامهم التعاقد بغاية التجارة مع الدولة أو الجماعات المحلية أو المؤسسات والمنشآت العمومية» إذ قال الخبراء الذين استشارهم رئيس الحكومة بأنه غير معني بهذا الفصل مادام لم يقم شخصيا بالتعاقد مع الدولة بل أن المتعاقد هو هذه الشخصية المعنوية التي يمثلها المجمّع.
هنا تبدأ الإشكالات الكبيرة السياسية والاثيقية والذي يهمنا هنا هو الموقف الأول لرئيس الحكومة : كيف قبل بهذا التأويل ؟ وكيف اطمأن إليه ؟ ثم لو كان مقتنعا به أخلاقيا وسياسيا لم تخلى بسرعة عجيبة عن قناعة سرعان ما تم كشف أمرها بدءا بحواره مع الزميل بوبكر بن عكاشة يوم الأحد قبل الفارط ثم ما كشفه النائب ياسين العياري أياما قليلة بعد ذلك ومراسلة هيئة مكافحة الفساد ، فلو كان الموقف سليما قانونيا وأخلاقيا وسياسيا لِمَ تم التراجع عنه بتلك السرعة الفائقة ؟ أصعب الأمور في مثل هذه القضايا هو التوفيق بين الحقيقة والإنصاف وتقدير التناسبات بين مقتضيات القانون ، نصّا وروحا، ومتطلبات السياسة والقيم في ظرف أزمة خانقة تطالب فيها الحكومة – وهي محقة – بتضحيات جسام من الجميع بمن في ذلك الطبقات الوسطى والشعبية ..
كيف يمكن مجابهة كل هذه التحديات الاقتصادية والاجتماعية دون قيادة فوق كل شبهات الشبهات؟!
أما الإشكال الأكبر المطروح على البلاد اليوم فهو استفحال أزمة الثقة وتوفير فرصة ذهبية لكل من يريد ضرب هذه الحكومة لدواعي حزبوية ومصلحية ضيقة ..
مهما يكن من أمر لا يمكن أن يتواصل الأمر على هذه الشاكلة بوثائق ومعطيات تأتي من هنا ومن هناك..لابد أن يتكلم المعني بالأمر وان يعطينا الرواية الكاملة بجزئياتها وان يبرر طريقة تعامله معها وان يستخلص لنفسه ولحكومته كل الخلاصات القانونية والأخلاقية والسياسية.
الياس الفخفاخ أمام موعد سياسي جوهري فإما استعادة ثقة الناس بعد أن يتبينوا صدق نواياه رغم الخطإ الفادح في التقدير والانطلاق مجددا لقيادة البلاد أو فقدان الثقة وتوسع دائرة الارتياب وحينها لن تكون فترة حكمه إلا سلسلة متواصلة من الأزمات هذا لو أصرّ على البقاء في القصبة ووجد الدعم البرلماني الضروري لذلك..
أيام صعبة جديدة على تونس...