مناخ العلاقات بين رئيس الحكومة المتخلي ورئيس الحكومة الجديد من جهة و بعض الشخصيات الحزبية أو مسؤولي المنظمات الوطنية من جهة أخرى .
من هنا ينتهي الحديث عن أعضاء التشكيلة الّتي نالت الثقة و لو بأغلبية غير مريحة ،و يتوقف التعليق على سيرهم الذاتية و تجاربهم السابقة في الإدارة والتسيير والسياسة ،و يقع الكف عن التذكير بازدواجية جنسيات بعضهم وتقلّب مواقفهم . من هنا ينتهي كل ذلك، و يبدأ تبيّن حقيقة خياراتهم الوطنية وصحة شعاراتهم،بتتبع الخطوات الأولى في سيرهم على منصّة الممارسة الفعلية للسلطة .
هؤلاء سيجدون أنفسهم أمام مكرهات مهامهم الجديدة الّتي سيتولّون خلالها النظر في ملفات حارقة بسرعة متفاوتة ، ولكن في ظل مطالب بتحقيق نتائج ملموسة، مما سيرسمونه من خيارات لتغيير الشأن الّذي يضطلعون به، نحو الأفضل المُنتظر من أوسع فئات الشعب.
كما هو الحال في تسلم إرث الأموات من الأحياء ، فإن من يقبل التركة من الأحياء، يقبلها برصيدها الإيجابي و السلبي على حد سواء ، و لن يكون له التذرّع عند الفشل بسوء الموروث الّذي كان على بيّنة منه .
لذلك لن نرجم المستقبل و لن نحاكم النوايا ، و سنبقى نتابع مسيرة هذه الحكومة الّتي طال انتظارها، ولن تكون هذه المتابعة ، للأداء الجماعي ، وإنّما ستكون على أساس أداء كل وزير في وزارته في إطار السياسة العامّة الّتي ننتظر الإعلان عنها في محاور واضحة ذات أهداف عاجلة و أخرى آجلة .
هذه الأهداف ليست تلك الّتي تناولها رئيس الحكومة في خطوط عامّة ،و فقا لما اقتضته اكراهات الحصول على النسبة الكافية لنيل ثقة نواب الشعب ،و انّما الخيارات الصريحة والواضحة لتجاوز الازمة الّتي تعيشها البلاد على المستوى الاجتماعي والإقتصادي والسياسي . ففي محور الشأن الاجتماعي لا مفر من تحديد السياسة الّتي ستّتبع بخصوص تطبيق الإتفاقيات المبرمة مع الاطراف الاجتماعية وبخصوص مراجعة نظام التأجير ومراجعة التعيينات الّتي سبق الإلتزام بها في خارطة الطريق الّتي صاغها الرباعي الراعي للحوار، و الّتي تجاهلها يوسف الشاهد .
كما تتطلب المرحلة القادمة بيان كيفية مجابهة تدهور المقدرة الشرائية و التحكم في الأسعار و حماية الانتاج الوطني و في البحث عن التوازن المنشود في الميزان التجاري، و كيفية تحسين الجودة لضمان الأسواق الحالية و فتح أسواق جديدة للمنتوج التونسي في كل القطاعات .
في القطاع الفلاحي الذي يشكل الركيزة الاستراتيجية للاقتصاد التونسي ، لا بد من اتباع خطة استراتيجية لضمان الانتاجية ولضمان مستلزمات التخزين و التسويق في آن واحد ، حتى لا يتكرّر ما حصل في منتوج الحبوب و الزيتون و بدرجة أقل في قطاع القوارص. وفي هذا المجال لابد من التفكير في المستهلك و المنتح المباشر معا، إذ لا يعقل أن يبقى الوسيط هو المستفيد الأكثر نصيبا من أرباح المنتجات الفلاحية.
في قطاع المحروقات والمناجم و الطاقة والطاقة البديلة ، لا مناص من ضمان استمرارية الانتاج لتوفير الحاجيات الداخلية ولضمان الأسواق الخارجية ، الّتي تتأثر بكل انقطاع مهما قصرت مدّته ، وهو ما يُسبّب انخراما في منظومة بأكملها، إلى درجة أن تونس أصبحت تشهد عجزا في السيولة لخلاص عمال و موظفي قطاع المناجم . و معالجة هذا الأمر لا تكون برفع الشعارات و نقد التصورات دون البحث عن تصورات جديدة ، كما هو الحال بالنسبة لنقل منتجات المناجم الّتي لم نشاهد إلى حدّ اللآن عرضا واضحا لإشكالية النقل هذه و بيان الأسباب الحقيقية لعجز النقل الحديدي لكامل المنتجات بالسرعة والنسق المطلوبين و بيان أسباب اللّجوء إلى نقل القطاع الخاص و حقيقة كلفة هذا و ذاك، مع التوصل إلى كيفية معالجة ذلك .
في مجال الصحة العمومية نشهد تدهورا مستمرا و خدمات متدنية و لا يوجد أي تناسق بين القطاع العام و القطاع الخاص ، بالرغم من أن القطاعين يقدّمان خدمات عامّة ، و لا مفر من البحث عن نوعية من الشراكة تضمن خدمات أفضل في إطار مجهود وطني للضمان الصحّي . و نفس الأمر بخصوص التعليم العمومي في مختلف درجاته ، والتكوين المهني و كيفية الإعداد لضمان سوق تشغيل للمتخرجين واستيعاب مختلف أصنافهم .
لا يتسع المجال لاستعراض كل المجالات، لتناول إشكالية توفير ما يكفي من موارد للبلاد لمجابهة الصعوبات، ولكن لا بد من التأكيد على أن مرفق العدالة والقضاء و السياسة القضائية أصبح حلقة ضعيفة في الدولة التونسية ، و رغم ذلك لم يضعها أحد ضمن أولوية الأولويات . و قد يكون حان الوقت لتهتم الحكومة بهذا الشأن بعد أن سقطت كل المبرّرات لإرساء عدالة فاعلة يكون فيها للقضاء سلطة فعلية ديدنها إقامة العدل بين الناس بواسطة القانون وبآليات عمل ناجعة يقع التخلص فيها من كوابح العمل ومعطلاته ليقع الفصل في النزاعات في أقل وقت ممكن و يتحصل المتقاضون على حقوقهم بأيسر السبل وأسرعها.
وفي هذا الصدد لا بد من فصل الملفات ذات الأبعاد السياسية بشجاعة و اقتدار لإسترجاع الثقة في القضاء ، ولابد من وضع حد لمخرجات «العدالة الانتقالية» الّتي أصبحت مزاحمة للقضاء العدلي ونافية له أحيانا ، فضلا على أنها أصبحت انتقائية و لم تقطع مع نوازع التشفي والضغينة ، خلافا لما أُريد لها في بعض الأنظم المقارنة.
إن المطلوب من وزراء حكومة الفخفاخ الكثير ، و لكن التعجيل بالقليل مّما هو من الاولويات للبدء في تجاوز الأزمة وتهيئة مناخ اجتماعي سليم، هو الكفيل بكسب ثقة أوسع فئات الشعب، و إبعاد شبح المخاوف من المستقبل و زرع بذور التفاؤل. من غير ذلك سيتجدّد العهد مع دوامة الخوف من المجهول و التجاذب حول ما يعطّل التجربة التونسية.