جديدة عن الاغتيالين السياسيين و خلفياتهما ، جعل القضاء يحتل الواجهة في نهاية الأسبوع المنصرم خاصّة إثر إعلان الناطق الرسمي بإسم النيابة العمومية عن تأجيل الندوة الصحفية الّتي تمّت دعوة الصحفيين إليها يوم 24 جانفي الجاري بسب ما اعتبره تجنبا للتصادم بين النيابة العمومية وهيئة الدّفاع.
لقد سبق أن حصل في السابق تباين في كيفية معالجة الملفين الخطيرين و كيفية إجراء الأبحاث فيها حتى لدى الدوائر القضائية نفسها ، أو بخصوص توجيه اتهامات لجهات قضائية بسبب عدم الاستجابة لطلبات المحامين القائمين بالحق الشخصي بخصوص اجراء أبحاث و تحريات تساعد على كشف حقيقة الإغتيالين و من يقف وراءهما . ولكن خلفيات ملف مصطفي خضر و الوثائق الّتي كشفها في ما سُمّي بالغرفة السوداء ، ،كشف جوانب هامة و خطيرة يمكن أن تحدث توجها جديدا لمسار القضيتين و يمكن أن تحسر اللّثام عن خلفيات سياسة حزب النهضة والاطراف الموالية و الدّاعمة له.
والجدير بالملاحظة أن المعالجة القانونية للمستجدات متاحة طبق مقتضيات مجلّة الاجراءات الجزائية لأن ظهور أدلّة جديدة كانت خفية أو مخفية تقوي أو تفنّد الأدلة السابقة أو ظهور تطورات جديدة على الأفعال ، يمكن أن تتيح إعادة النظر في أي ملف أغلق، فما بالك في ملف بصدد النشر . كما أن للنيابة العمومية في كل الأحوال آليات إجرائية ناجعة للتتبع و سلطات واسعة لأجراء الأبحاث ،بل لها أيضا أن تطلب اجراء بحث مؤقت ضد مجهول إذا لم تبلغ الشكاية الّتي وُجهت إليها حد الكفاية من التعليل أو التبرير ، و ذلك بواسطة قلم التحقيق.
فالآليات القانونية إذن متوفّرة و لا يُنتظرُ غير تفعيلها بالصيغ و السرعة اللاّزمتين اللتين تقتضيهما خطورة الأفعال الّتي يجرّمها القانون، و ذلك لهدف وحيد، و هو كشف الحقيقة و محاسبة المجرم على فعله، والأمر لا يختلف عليه إثنان بخصوص خطورة جريمتي الإغتيال و كشف الوثائق المتّصلة بالأمن القومي وبالمخططات الّتي تستهدف الدولة وهياكلها الشرعية .
وإذا سلمنا بأن الطرفين المعنيين قانونا بمجريات التتبعات هما النيابة العمومية الّتي تمثّل الحق العام بمعناه الشامل و لسان الدّفاع عن الأطراف متهمين أو متضرّرين ، فإن «المعركة القانونية» الّتي سيكفلها النظام القضائي المحايد ،ستكون بين الطرفين في المحاكم المختصّة .
ولكن هذا يتطلّب أن توجد سلطة قضائية مستقلّة ذات امكانيات غير محدودة لا تتدخل في شؤونها بقية السلط ، ولا متحكّم فيها غير سلطان القانون. وبالتّالي يفترض نظريا ألا تمارس على هذه السلطة أي ضغوط سياسية ، و من باب أولى و أحرى ، ألاّ يقع توظيفها بأي شكل من الاشكال في الشأن السياسي .
فأين تونس من كل هذا؟
إن ما عرفه القضاء بعد جانفي 2011 و ما يزال يعرفه إلى اليوم ، هو السعي الدّائم لتكبيله ، و هو ما سعت إليه النهضة في فترة حكم الترويكا الّتي لم يُخف زعماؤها أبدا الرغبة في تأمين القضاء والأمن والجيش الّذي قال راشد الغنوشي في احدى تصريحاته بخصوصهم بأنهم غير مضمونين ، و هذا يفضي إلى القول بأن هاجس النهضة لضمان دوام حكمها ، أو سيطرتها ،هو كسب ولاء هؤلاء مباشرة أو تحييدهم على الأقل في مرحلة أولى قبل اختراقهم و كسبهم.
والدليل على ذلك ، ما حصل من ضغط و هرسلة بسبب إقالة عدد من القضاة دون أية مؤاخذة تأديبية أو محاكمة أو محاسبة ،و التهديد بوجود ملفات أخرى أُعلن السيد نورالدّين البحيري وزير العدل آنذاك ، أنها ستُفتح و لم تُفتح إلى اليوم ، بل كانت وسيلة للضغط والتخويف والّتي تبين المتابعون تبعاتها لاحقا.
والدليل على ذلك أيضا ما حصل للهيئة الوقتية للقضاء من هرسلة و تعطيلات ثم ما حصل للمجلس الأعلى للقضاء من عراقيل و ما يحصل إلى اليوم بخصوص تركيز المحكمة الدستورية الّتي اكتفى وزير العدل بالتأسف عن عدم وجودها عند رده على أسئلة نواب الشعب في جلسة 19 نوفمبر الماضي مع تأكيده على أن السلطة التنفيذية تضبط السياسة الجزائية للدولة و أن التكريس الفعلي لمبدأ الفصل بين السلط يقتضي الاسراع في تنقيح النصوص التي لا تتلاءم مع الدستور .
فماذا يُنتظرُ من القضاء في الملفات الكبرى والحال أنه غارق في صغرياتها الّتي تناولنا تفاصليها على أعمدة «المغرب» في ما لا يقل عن ثلاثة مقالات في سبتمبر 2018؟
وماذا يُنتظرُ من صوت الدّفاع :هذا الحق الموصوف بالمقدّس ،إذا انغلقت أمامه السبل المتوفرّة في المحاكم؟
لقد سبق أن أجاب عن هذا السؤال المحامي الفرنسي جاك فرجاس ـ Jacques Vergés الّذي كان صوتا مدوّيا في أغلب المحاكمات الكبرى في فرنسا وخارجها، إذ قال أنه إذا كان «القضاء أصم وأعمى.. فإننا نلجأ إلى الرأي العام في الداخل والخارج لكي لا يبقى محايدا و يكون ذلك في إطار «المحاكمة القطيعة « كما يسميها procès de rupture و قال «عندها لا نخاطب المحكمة و إنّما نستعملها كمبلّغة لصوتنا لكي نمس الرأي العام ..».
فاللّوم ليس على هيئة الدفاع عندما تسعى إلى تبليغ صوتها و إنّما على الماسكين بمختلف السلط الّذين يصمّون آذانهم عن كل المطالب و يتخفون عن مناقشة الأدلة والإثباتات المعروضة عليهم. و بالتالي فلا يمكن القول بأن هيئة الدفاع هي الّتي تسيّس الملفات ، بل أن المتوجسين من كشف الحقائق هم الذين يسعون إلى تسييس القضاء وتكبيله وتعطيله.
لذلك لا نستغرب أن يسعى الخائفون من كشف الحقائق إلى إثارة قضايا جانبية و إفتعال زوابع أخرى و مسائل فرعية لصرف النظر عن تناول المستجدات الاخيرة ، الّتي تلازم الحكومة الصمت بخصوصها وكذلك تفعل العديد من الأحزاب السياسية و «الزعماء» والمجلس الأعلى للقضاء وعدد من الجمعيات المهنية والحقوقية .
إن الخطاب المتشنج الّذي لمسناه مؤخرا ، تحوّل إلى التشخيص و الإستهزاء بهيئة الدّفاع و التشكيك فيها و هو ما يقيم الدليل على ضعف الحجّة و وهن الردود ، من ذلك الاتهام بتسييس القضية .فالمسألة قانونية و قضائية صرفة بالأساس ،و لكنها بحكم أنها تطال بعض السياسيين و هي محل توجس من بعض الماسكين بالسلطة في سنة ساخنة ، فإنها تحولت إلى معركة من أجل الوصول إلى كشف حقائق ذات أبعاد سياسية بامتياز .