تعديل البوصلة

لاشكّ عندنا أنّ هلاك عدد من الشبان، وهم في بداية مسارهم الحياتي، مؤلم يفطر القلب...

ولا مراء في أنّ الذين هلكوا من غير التونسيين يستحقون منا لفتة انتباه لأنهم لاقوا مصيرا محتوما وألم ذويهم مفهوم فالمشاعر الإنسانية تتجاوز حدود الجندر، والسن والطبقة والدين والعنصر. ولكنّ ردود فعل أغلب التونسيين تبقى غير معبّرة عن إدراك معمق لما حدث ولا يزال يحدث بخصوص الهجرة السرية أو غير الشرعية إذ من السهل أن ندين وننتقد ونغضب و نلقي بالمسؤولية الكاملة على الحكومة والساسة... ومن السهل أيضا أن نتماهى مع الضحايا أو ذويهم... ومن السهل أيضا أن نطلق العنان للخيال وللقلم حتى يصف ويصور... ولكن الأصعب من كلّ ذلك هو التحديق بملء العين في المرآة ومواجهة المعضلة بكل جرأة وشجاعة حتى نتمكن من تجاوز طور الانفعالات إلى طور عقلنة الحدث.

وهنا لابد من تسمية الأشياء بمسمياتها وكسر حاجز الخوف وطرح الأسئلة التي لابد أن تطرح ومنها : هل الشاب/ة ضحية «السيستام» أم أنّه اختار وقرّر أن يخوض مغامرة الحرقة؟ وإذا علمنا أن مبالغ هامة (7 آلاف دينار) دفعت لمافيا التهريب وبإمكانها أن تمثل رأس مالِ صغير لتمويل بعض المشاريع الصغرى فلِم يفضل الشاب/ة دفعها للمستثمرين في «الحرقة» بدل التشمير على الساعد والعمل؟ لِمَ أضحى المال والكسب السريع من أهم القيم التي يتمسّك بها الشباب؟ لِمَ غابت سرديات البذل والكد والعمل والمثابرة وحلت في مكانها قصص الإثراء السريع حتى وإن جاء على حساب القيم الأخلاقية؟ لِمَ يتعامل الشبان مع المهربين المسؤولين عن الإجرام في حق العباد والبلاد ويرفضون التبليغ عنهم؟ لم يتأثر الشبان بـ«دعاة الحرقة» الذين يبيعون قصص النجاح الوهمية فيسلمون أنفسهم لهم عن طواعية؟ لماذا تغيرت دلالات الزمن فصار الواحد راغبا في تحقيق كل أحلامه دفعة واحدة وفي زمن قياسي وبأيسر السبل؟ لِمَ صار العلم مكروها والاتجار في المخدرات وغيرها مقبولا؟ ولم أضحى ما يحققه التعليم من إمكانيات لتغيير الواقع مرفوضا؟ لم ظل تمثّل الغرب ثابتا فهو المخلّص وهو طريق النجاح بالرغم من حدوث تحولات سياسية وأزمات اقتصادية ...لم سرت العدوى وصار «الحارق» النموذج والقدوة؟

لم عجزت الأسر عن الحوار مع الأبناء ؟ ولِمَ تواطأ بعض الأولياء فباعوا ما لديهم في انتظار أن تتحقق الأحلام؟ لم صارت الأسر غير قادرة على توفير «جهاز مناعة» فعال؟ لم صار الأهل، في كثير من الأحيان، يدفعون أبناءهم دفعا إلى الرحيل ولكنهم حين يفاجئون بخبر الموت ينتحبون ويلقون بالمسؤولية على الآخرين؟ لم لم يضطلع هؤلاء بمسؤولياتهم في الإخبار عن شبكات التسفير؟

لا يمكن أن نستمر في التعامل مع ملف الهجرة السرية على هذا النحو فنظهره في لبوس سياسي صرف ونتعامل مع الدولة على أساس أنها الأب الذي يجب أن يتحمل وزر الأبناء ويحقق لهم السعادة والرخاء...لا يمكن أن نستمر في العويل والاحتجاج والسبّ والشتم ... لا يمكن أن نتعاطف كليّا مع من هلكوا وندّعي أنّهم على حقّ ونصورهم في صورة الضحايا وننفي عنهم المسؤولية... لا يمكن أن نستمر في نسج سرديات تصور الشباب على أساس أنهم ضحايا التهميش وسوء الإدارة والتدبير وانتشار الإحباط ... هناك سرديات أخرى وقصص نجاح في جبل سمامة، وفي دوار هيشر، وفي تالة والقصرين... وفي غيرها من المناطق التي يكدح فيها الناس من أجل تحصيل قوتهم بكل كبرياء لأنّهم آمنوا أنّ الحياة كفاح وأن سيزيف هو الأنموذج المقتدى به... هذه القصص تكشف النقاب عن اختيارات أخرى متاحة أمام الشباب وعن أدوار أخرى يضطلع بها هؤلاء ولكن هذه السرديات لا تحتفي بها الفضائيات الخاصة التي تلهث وراء البوز، ولا يكترث بها الإعلام الذي يستسهل نقل التعليقات وما يروج في الفايسبوك من أخبار.
تحية إكبار إلى صديقي «بائع المناديل» على الطريق السيارة كلما أردت أن أغدق عليه العطاء رفض بكل شدة وقال أنا أعمل بعرق جبيني... هذه السرديات التي ينبغي أن نجعلها مرئية حتى نتعلّم.

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115