ومازال الطرفان النقابي والحكومي يرددان بأنه لن تكون هناك سنة بيضاء !!
ينبغي التذكير بأن ضررا كبيرا قد ألحق بعدد هام من التلاميذ ولاسيما أولئك الذين كانوا يرومون التسجيل الأولي بالجامعات الأجنبية كما يعيش زهاء 900.000 تلميذ وتلميذة حالة من الاضطراب غير مسبوقة هم وعائلاتهم رغم « تطمينات» النقابة العامة وتهوينها من أمر حجب الأعداد والآن التعليق المفتوح للدروس ..
ما الذي أوصلنا إلى هذا ؟
أمران أساسيان :
- عجز الحكومات المتعاقبة عن طرح مشروع إصلاحي فعلي للمنظومة التربوية ينخرط فيه المجتمع بأسره بدءا بالأسرة التربوية ..
- جنوح نقابات التعليم إلى سياسة شبه وحيدة : مزيدا من المكتسبات ذات البعد المادي دون أن يكون لذلك ما يقابله والتكتيك المتبع هو الضغط بكل السبل على السلطة التنفيذية قصد اقتلاع تعهدات أو تنازلات فقط لا غير.
ولكن لسنا ندري هل يدرك هذان الطرفان أن النتيجة الحتمية الوحيدة هي تردي صورة المدرسة العمومية والمربي في ما يمكن أن نسميه بموسم الهجرة إلى المدارس الخاصة ولاسيما في التعليم الابتدائي الذي تضاعف رواده خلال ثماني سنوات بأكثر من ثلاث مرات ..
الواضح أن لا أحد منشغل اليوم بالأزمة العميقة التي تمر بها المدرسة التونسية وبتراجع مستواها ومساهمتها الكبيرة في تعطل المصعد الاجتماعي ..
بل نحن نرى تصرفا غريبا من السلطة التنفيذية حصل مع أوائل حكم هذه الأغلبية وهو انسحاب تونس من كل التقييمات المقارنة لمنظومتنا التربوية الأوروبية والأمريكية وهكذا انسحبنا من برنامج «بيزا» و«تيمس» و«بيرلس» وكلها برامج تقييم مكتسبات التلاميذ وفق منهجيات مختلفة تسمح لنا بادراك مواطن الخلل ولكن السلطة التنفيذية ارتأت انتهاج سياسة النعامة والحال أن تونس كانت البلد العربي والإفريقي الوحيد الذي شارك في تقييم «بيزا» (البرنامج الدولي لمتابعة مكتسبات التلاميذ ) سنة 2003 والذي تنجزه منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية (OCDE) والآن تتلاحق البلدان العربية والإفريقية على هذا البرنامج لتقييم مردودية وجودة منظومتها التربوية في حين نقرر نحن الانسحاب تحت شعار « لا عين ترى لا قلب يوجع» ..
ينبغي أن تكون لنا الشجاعة الكافية لكي نقول بان التراجع الكبير لمدرستنا العمومية مرتبط ولا شك بالتراجع النوعي لمضمون التدريس عامة وجودته ..
لاشك بأن منظومة التدريس تتجاوز الأفراد ولكن لا يمكن تبرئة الإطار التربوي من هذا التردي العام فالكل قد ساهم في هذا الإخفاق وإن كان ذلك بنسب متفاوتة ..
ولابد أن تكون لدينا الشجاعة أيضا لكي نقول بأن الشحن السنوي للأسرة التربوية في معارك دونكيشوتية -وإن أفضت في الغالب إلى بعض المكاسب المادية- يسهم بدوره في تردي مستوى التعليم وصورة المدرس وحصر العلاقة التربوية في علاقة شغلية مادية فجّة لا مضمون لها سوى شعارات لا تصمد أمام الممارسة التربوية اليومية ..
لسنا ندري كم سيكون ثمن إنقاذ هذه السنة الدراسية ونحن لا نتحدث هنا عن اتفاق محتمل بين الحكومة والنقابة العامة للتعليم الثانوي وقيمته المادية بل نتحدث عن الثمن الذي ستدفعه المدرسة العمومية ، مجددا ، بعد هذه السنة الكارثية وذلك ايا كانت نتيجة مآلات مفاوضات الساعة الخامسة والعشرين فالضرر قد لحق بصفة نهائية بالمدرسة العمومية ونحن نلمس قطيعة شبه كلية بينها وبين الطبقات الوسطى المراهنة تقليديا على التفوق المدرسي لأبنائها ..
اننا نعيش اليوم نزيفا خطيرا يفقّر المدرسة العمومية من أبناء الطبقة المرفهة والطبقة الوسطى العليا خاصة في المرحلة الابتدائية وإن لم يترجم بعد بالكثافة ذاتها في الإعدادي وخاصة في الثانوي فهو لقلة العرض الجدي في هذه المستويات وللمبالغ الباهظة جدا بالنسبة للمعاهد التونسية أو الأجنبية ذات الجودة العالية ..
ونفس هذا التفقير نلاحظه بوضوح على مستوى التعليم العالي بمستوياته المختلفة وخاصة في مراحل البحث والدراسات ما بعد الجامعية ..
وأمام هذا النزيف لا نرى سوى عملية كسر العظام بين بعض النقابات والوزارات المعنية ولعل الصمت النسبي للعائلات التونسية يجد تفسيره النسبي في انعدام علاقة الثقة هذه وفي بحث العائلات عن سبل موازية لتحقيق الحد الأدنى من النجاح المدرسي لأبنائهم ..
أيا كانت نتيجة هذا الصراع اللاعقلاني بين النقابة العامة للتعليم الثانوي والحكومة فالنتيجة الحاصلة الآن بصفة متأكدة هي الانتحار البطيء للمدرسة العمومية .. وعندها سيكون التفاوض على العدم والعبث.. فقط لا غير ..