أزمة التوافق الندائي النهضوي: سيناريوهات الربح والخسارة

لا أحد يعلم هل أن الأزمة التي شهدها مجلس نواب الشعب بسبب الاختلاف الحاد في وجهات

النظر بخصوص التمديد من عدمه لهيئة الحقيقة والكرامة قد تكون الأزمة القاتلة للتوافق الندائي النهضوي أم لا ... ولكن الأكيد على كل حال أننا شاهدنا خلال يومي السبت والاثنين الفارطين أنموذجا مصغرا لما يمكن أن يؤول إليه برلمان يغيب فيه التوافق بين الحزبين الأولين في البلاد...
ولكن يخطئ من يعتقد بأننا قد عدنا إلى أجواء التطاحن الكامل والكلي الذي ساد العلاقة بين النداء والنهضة سنتي 2012 و 2013 أو أننا في مناخات الحملة الانتخابية لسنة 2014.

فما بين اليوم وفترة التطاحن قد مرّت أكثر من أربع سنوات من التعايش فالوفاق فالتحالف في الحكم مرورا بتحول واضح في موازين القوى السياسية اثر الانتخابات العامة في خريف 2014.. ولا يبدو أن قيادة الحركة الاسلامية مستعدة للتفريط في «مكاسب» مرحلة التوافق أو أنها تريد إنهاءها وتغيير تحلفاتها رغم «العروض» المتكررة في كل مناسبة من قبل حليفها السابق حزب المؤتمر (الحراك اليوم) ومن يحوم في فلكه..

لا شك أن حسابات الربح والخسارة تقدر بصفات مختلفة وأحيانا متناقضة ولكن الواضح أن الطرفين قد غنما كثيرا من هذا التعايش التوافقي...

يمكن أن نتخيل لحظة واحدة لو استمر الصراع بين الحزبين خلال هذه العهدة الانتخابية كيف كان يكون حال الحزب الذي أسسه الباجي قائد السبسي خاصة بعد انشقاق كتلته وفقدانها 31 نائبا ليصبح لديها الآن فقط 55 نائبا أي ربع مجلس نواب الشعب!! هل كان بامكان النداء الحكم ومع من ستكون الأغلبية؟ وتزداد المسألة تعقيدا عندما نعلم العلاقات المعقدة التي ربطت النداء مع الكتل القريبة منه كآفاق تونس والوطني الحر والحرّة لمشروع تونس والوطنية...

ثم لنتصور كذلك لو كانت حركة النهضة هي صوت المعارضة الأول في البلاد داخل مجلس نواب الشعب وخارجه، هل كان بامكان حكومتي الصيد والشاهد الصمود أكثر من أسابيع قليلة؟
هذا دون الحديث عن مختلف مشاريع القوانين من عادية والتي كان سيسقط جلّها أمّا القوانين الأساسية والتي تتطلب تصويت الأغلبية المطلقة لأعضاء المجلس، 109 أعضاء، فلا شك أنه كان بامكان النهضة وبكل يسر اسقاطها جميعا..
قد يبدو من السريالي الحديث عن الاستقرار السياسي الذي وفره التحالف الندائي النهضوي ولكن لنفترض غيابه بالكامل وسوف نرى -تصورا - شكلا آخر من الاستقرار مخيفا إلى أبعد الحدود..

ولكن المفارقة هي أن هذا الاستقرار النسبي الذي ربحه النداء قد أفقده جزءا من هويته الأصلية ومن قاعدته الجماهيرية (ولا نقول الانتخابية) خاصة في مستوى النخب (بالمفهوم العام للكلمة) التي لم تستسغ، في أغلبها، هذه «المراكنة» الندائية النهضوية، مراكنة قد تكون وراء فقدان النداء المقعد الوحيد بدائرة ألمانيا وهذا ما يفسر التغير النسبي في علاقة النداء بالنهضة هذه الأسابيع الأخيرة ولعلّ ذلك ما دعا أيضا «الأدمغة المفكرة» في البحيرة (المقر المركزي للنداء) إلى الهجوم المباغت هذه الأيام الأخيرة في مجلس نواب الشعب قصد استحضار شيء من «روح» الحملة الانتخابية لسنة 2014...

أما النهضة فقد غنمت بدورها كثيرا من هذا التعايش التوافقي مع عدو الأمس رغم الانتقادات الداخلية القوية لهذا التحالف المنخرم حيث تم فيه تقزيم الحركة الاسلامية كيفيا وكميا.. ولكن القيادة النهضوية تدرك جيّدا أنه لو لا هذا التحالف وبهذه الشروط التي قد تبدو مهينة أو مجحفة لبعض معارضي خطّ الشيخ الرئيسي لمرّت حركة النهضة بعواصف لا قدرة لها على مجابهتها والمرور منها بسلام..

التحالف مع النداء قد مثلّ مظلة للنهضة تمكنت بفضلها من تجاوز فترة صعبة وطنيا واقليميا في أواخر سنة 2013 وسمحت أيضا للحركة الاسلامية بنوع من الاستراحة بعد أن كانت طيلة فترة حكم الترويكا الهدف الأول والأساسي لجل النخب والمجتمع المدني.. أما بعد خسارتها لانتخابات 2014 ودخولها لمنظومة الحكم الجديد بشكل محتشم في البداية (وزير واحد في حكومة الحبيب الصيد) وتفاقم أزمة النداء وبروز مسألة التوريث فقد عوض بنسبة هامة الحليف/ الغريم للحركة الاسلامية في وضعية المرمى وأصبح هو الهدف الأول للانتقادات..

ولكن حركة النهضة بقبولها بشروط «مجحفة» حسب أغلب اطاراتها وقواعدها قد عرّضت خطّ قيادتها لانتقادات لاذعة ولنفور واضح من قبل قاعدتها الانتخابية التي وان واصلت تعلقها بحركة النهضة كمشروع سياسي عقائدي إلا أنها لم تعد تثق كثيرا في الخط السياسي لقادتها بل وأصبحت تفضل عليهم رموزا أخرى كبعض قيادات الحراك أو التيار..
أما بالنسبة للقيادات الوسطى والصغرى فالشعور الغالب عندهم أن قيادة الحركة قد تنازلت كثيرا وتركت دوما المبادرة للشريك الندائي سواء تمثل هذا في رئيس الجمهورية أو حتى في مبادرات وتصرفات الكتلة النيابية للنداء كما أنها لم تنبس ببنت شفة عند عودة عدد من رجال النظام القديم إلى الصفوف الأمامية اليوم..

وهكذا جاءت الأزمة الأخيرة في مجلس نواب الشعب لتبرز حدود هذا التوافق وكذلك ضرورته في نفس الوقت للطرفين، إذ لا يريد أحد طلاقا بائنا فذلك سيعرض الحزبين لمخاطر جمّة ونحن على مشارف انتخابات بلدية وعلى قاب قوسين أو أدنى من الانتخابات التشريعية والرئاسية في أواخر سنة 2019...

ولكن بينت الأزمة الأخيرة أن مسك القيادات الوسطى والكتلتين النيابيتين لهذين الحزبين أصبح مسألة معقدة للغاية خاصة عندما يتعلق الأمر بمواضيع حارقة كتقييم مرحلة ما قبل الثورة أو بعض الخيارات المجتمعية الكبرى.. فهنا تطفو الفوارق السياسية والفكرية والنفسية الكبرى بين الحزبين من جديد وتتمترس القيادات الوسطى، هنا وهناك، بمخيال الصراع زمن الترويكا: منظومة قديمة من جهة قائمة على الفساد والاستبداد وحركة ظلامية تريد العودة بنا إلى القرن السابع من جهة أخرى..

ولكن الجديد هنا هو وجود أكثر من قناة اتصال بين قيادات الحزبين بدءا بالشيخين فرئيسي الكتلتين فالأدمغة المفكرة في مون بليزير (المقر المركزي للنهضة) والبحيرة ...

ولكن الواضح - إلى حدّ الآن على الأقل - هو وجود نية لفك ارتباط ولو نسبي من قبل النداء وتتضح من خلال عمليات عدّة القصد منها الحدّ من النفوذ النهضوي الذي بقي قويا داخل بعض مؤسسات الدولة (كهيئة الحقيقة والكرامة مثلا) وفي هذا يندرج التفكير في قانون جديد للعدالة الانتقالية أو تغيير النظام الانتخابي وخاصة في المشروع المنتظر المتعلق بإقرار المساواة بين الجنسين (وبالأساس في الميراث) والحقوق الفردية..

إذن من المستبعد جدّا اسقاط نهائي للتوافق بين الحزبين ولكنه لن يكون كما سلف أي لن يكون وفاقا رخوا تكاد تتماهى فيه المواقف السياسية والفكرية بل سنرى أمامنا أشكالا جديدة من التعايش المتسم بتعدد المناوشات بما قد يعسّر التوافقات القادمة داخل مجلس النواب وخارجه..

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115