أنجزها الإعلامي حتى نتبادل العناق والقبل ونجدّد عهد الصداقة أو الزمالة. ولا تفسير لهذا السلوك في اعتقادنا، سوى أنّ «الفاعل السياسي» في بلادنا قد دخل عالم السياسة لا برصيده المعرفيّ، وخبراته المتراكمة، وثقافته العامّة بل بقدرته على «التمثيل» (لا بالمعنى الفنّي ). فتجده أحيانا لا يكاد يفرّق بين الحقيقة والواقع والتخييل فيستمرّ في لعب الدور حتى بعد خروجه من دائرة السلطة.
وعندما يصرّ السياسي على مسرحة أفعاله، وتقييم نشاطه على أساس أنّه مرتبط بالقدرة على أداء الدور بمهارة على الركح السياسي، ويوهمك بأنّه قادر على التأثير في الجماهير ببلاغة الخطاب فلا تسل حينها عن حقّ المسرحي في تسييس العمل الفنيّ، وتحليل الواقع السياسي من منظور إبداعي يحوّل المنجز السياسي إلى فعل عبثي ويتناوله من زاوية تراجيدية. وما دامت السياسة تخترق كلّ مظاهر الحياة فلا مبرّر إذن للفصل بين السياسة والفنّ ذلك أنّ الرؤية الفنيّة تجد مشروعية في أوقاتنا العصيبة. فقد أضحى الفنّ وسيلة لتقييم التجربة السياسية في تونس ما بعد الثورة، ومنفذا لقراءة الواقع في تعقّده ودينامكيته.
ولئن عاب عدد من المتابعين لمسرحيّة «خوف» للثنائي جليلة بكار وفاضل الجعايبي تناولهما لموضوع «كلاسيكي» يركّز على مشاعر الخوف، ويعطي انطباعا سوداويا ومبالغا فيه عن المسار الانتقالي الديمقراطي فإنّ وتيرة الأحداث هنا وهناك تدفعك إلى الوقوع فريسة الخوف. فلا تكاد تغادر دائرة حتى تدخل في أخرى ولذلك كانت العاصفة المدويّة في العمل المسرحي كناية عن دوائر الخوف التي أحاطت بالتونسيين من كلّ الجوانب فجعلتهم يتساءلون بعد كلّ هذه السنوات عن النبأ العظيم: «علاش رجعنا وين كنا»، «علاش نمشيو ونعاودو نرجعوا»، «علاش تسدت المنافذ». وبالرغم من وعي أغلبهم بأنّ «من واجبنا نقدمو ونرجعو للسكة» و«نشدو الثنية» و«نتبعو المسار السويّ» وأنّه «لا رجوع إلى الوراء» وعلينا أن «نتسلح بالمعرفة» و«نتحمل المسؤولية» إلاّ أنّ النوازع «الكلبية» هي التي تغلّبت على فئات من التونسيين فجعلتهم كعصف مأكول وباتت أوصالهم متقطعة يذبح الواحد منهم غيره من الوريد إلى الوريد في وضح النهار، يغتصب فيه الأب ابنته بلا أدنى خجل، يسطو فيه المرء على أموال غيره بكل صفاقة ، يدلس الواحد الشهادات ويبيعها... أفلا يجوز للفنان أن يعبّر عن خيبة أمله وإحباطه وأن يصاب بالعمى فلا يرى أيّ انجاز ؟ إنّه الدمار الشامل...
مسرحية «خوف» تفضح انعدام الرؤية لدى النخب السياسية أولئك الذي قدّروا أشياء ففاجأتهم الأحداث: «ستنيناهم من قدّام جاوونا منتالي» ... تعرّي الأيديولوجيا الذكورية التي برّرت العنف ضدّ المرأة التي تصبو إلى الزعامة والقيادة، فليس بالإمكان القبول بانقلاب الأدوار: «ما نتبعشي أنثى»...تكشف عن الأزمة الجوهرية في البلاد: أزمة الأخلاق التي حوّلت فئات من
التونسيين إلى كلاب تنهش بعضها من أجل السلطة والزعامة... مسرحية عنف توحي لك بأنّ المسار الانتقالي تعطّل وأنّ تونس قاطرة التحوّل قد حادت عن الطريق فيستفزّك القنوط ويدفعك إلى التفكير في البدائل ...
«الحاضر الغائب» في هذا العرض المسرحي هو السياسي... هو موضوع القول تُوجّه له رسالة من باثّ تابع الركح السياسي وحلّله بأدواته الفنيّة، واستنتج فارتأى أن يمارس بدوره العنف فقتل رموز الأمل وجعل «الشابي» أسير الدوائر... ولكن لا حياة لمن تنادي ولا أمل في أن يستجيب القدر.