الاقتصادي والاجتماعي ولكن انضافت إليها مخاوف حول صلابة نجاحنا في الانتقال الديمقراطي..
هنالك إحساس عام بأن البلاد لم تحقق تقدما هاما في أي مجال أساسي وأن التراجع عن المكتسبات السياسية التي ميزت الثورة التونسية أمر وارد..لا فقط نتيجة التوتر المتنامي لبعض أجنحة منظومة الحكم الحالية بل وأيضا لإخفاق النخب في انجاز التوافقات التاريخية المطلوبة..
صحيح أن هنالك توافقا غير مكتوب بين «الشيخين» منذ صائفة 2013 توافق جنّب البلاد مخاطر الحرب الأهلية الباردة آنذاك ولكنه بقي توافقا سياسويا ولم يصبح بعد توافقا سياسيا بالإضافة إلى انحصاره فقط بين الباجي قائد السبسي وراشد الغنوشي من جهة وجناحين من النداء والنهضة من جهة أخرى..
ونقصد بالتوافق السياسوي انه كان توافقا بين الطرفين البارزين لنوع من تقاسم السلطة بينهما ولم يكن اتفاقا حول معالجة الملفات الأساسية السياسية للمرحلة الراهنة ثم اقتصر على النداء والنهضة ،أو بالأحرى بعض أجنحتها ، ولم يسع إلى أن يصبح اتفاقا بين جل مكونات الساحة السياسية في البلاد..
وللإنصاف لا يتحمل «الشيخان» وحزباهما فقط تبعات هذا الوفاق السياسوي المنقوص بل وكذلك جلّ مكونات الساحة السياسية التي تصرفت وفق منهجين أساسيين :
• اعتبار أن الثورة المضادة هي التي انتصرت في انتخابات 2014 وانه على «قوى الثورة (من هي ؟) الاستعداد لثورة ثانية عبر صناديق الاقتراع في أحسن الحالات أو عبر الاحتجاج الاجتماعي...
• اعتبار أننا إزاء تحالف يميني يميني لا يرجى منه خير للبلاد والعباد وانه باستثناء جزئيات بسيطة لا يمكن تأسيس شيء جدي مع الفائزين في انتخابات 2014..
نحن لا نناقش وجاهة هذين التصورين العامين ولكن نناقش انعكاسهما السياسي المباشر : تعطل إمكانية بناء صرح ديمقراطي مشترك فكل طرف يلقي باللائمة على الآخر : السلطة تتهم هذه المعارضات بالطفولية وأحيانا بغياب الوازع الوطني وهذه المعارضات تتهم السلطة بخدمة مصالح الأزلام والمفسدين وصندوق النقد الدولي..والكل يتهم الإعلام بخدمة هذا الطرف أو ذاك..
لو كانت ديمقراطيتنا مستقرة بمؤسسات قوية وبتعدد تجربة التداول السلمي على السلطة لهان الأمر..ولو كان اقتصادنا قويا ويخلق ما يكفي من مواطن الشغل لجاز لنا تجاوز خلافات السياسيين وحرب المواقع التي يشنونها على بعضهم البعض ..ولكن الوضع غير ذلك وغياب التوافق الأدنى الضروري بين مختلف مكونات المشهد السياسي – بغض النظر عن التمثيلية العددية لكل طرف- نشأ عنه تهديد جدي للتقدم في بناء هذه الديمقراطية الناشئة ومؤسساتها الغضّة..
الديمقراطية ليست فقط انتخابات وأغلبية وأقلية إنها أولا وقبل كل شيء قواعد لعبة وهيئات تحكيم يقبل بها الجميع أما لو ضربنا مصداقية كل جهة تحكيمية كالهيئات الدستورية المستقلة وعلى رأسها هيئة الانتخابات فإننا بصدد قطع الغصن الغضّ للديمقراطية الناشئة..
والديمقراطية أيضا حوكمة رشيدة وإعادة توزيع عادل للثروة وقواعد منافسة اقتصادية شفافة لا احتكار فيها ولا ريع..
والديمقراطية فلسفة تقوم على حقوق الفرد وتضامن المجتمع وحماية كل أصناف الأقليات..
وكل هذا يستدعي توافقا أدنى حول الطريق السالكة وكل مرور بالقوة ستكون له فيما بعد كلفة غالية.. وهذا يستوجب وعيا حادا عند السياسيين ،حكما ومعارضات ،والإعلاميين كذلك بأن الصراعات السياسية والحزبية ليست مفصولة عن الدوائر الاقتصادية والاجتماعية وان استمرار التناحر بينهم سيؤدي حتما إلى إضعاف الدوائر الأخرى وتعريضها لهشاشات جديدة..
والاتفاق السياسي الأدنى بين النخب السياسية ليس مطلوبا حول المسائل السياسوية والمنظومات القانونية بل وأساسا حول طرق إرساء مؤسسات الدولة وسبل إصلاح وإنعاش الاقتصاد وكيفية معالجة مشاكل البطالة والفقر والتهميش..
ليس المطلوب أن نتوافق على كل شيء ولكن المطلوب أن نتفق على كيفية إنقاذ البلاد ودعم دولة المؤسسات وعلوية القانون.
والمطلوب ألا نجعل من كل خلاف – مهما بدا هاما – مسألة حياة أو موت وأن يقتنع الجميع أن الطريقة الوحيدة لمواصلة حلم الثورة هي الإصلاح والإصلاح فقط لا أن نهدم البيت على ساكنيه ونبدأ من جديد في استعادة تراجيدية لأسطورة سيزيف..
فالحكام الحاليون ليسوا كلّهم ملائكة وليسوا كلّهم شياطين والأمر سيان بالنسبة للمعارضين فلا توجد الوطنية في صف والخيانة في صف آخر..فخطاب الشيطنة المطلق خطاب خطير حتى وإن بدا مربحا على المدى القصير ..إنه خطاب يفكك أوصال عيشنا المشترك ويشتت الجهد ويمنع البناء والإصلاح والتقدم..
يخطئ من يظن انه يمكننا العودة للعصا الغليظة وأن تونس لا تساق إلا بالقمع..فهذا عهد ولى وانتهى بلا رجعة وبقية الحالمين به إنما يطاردون أضغاث أحلام ،لكن شتان بين الديمقراطية والفوضى وبين التعددية والتشتت..
ينبغي أن نتعود على النظر لوضع بلادنا في سياقاته الإقليمية والدولية وأن ندرك أن معاول الهدم ليست فقط من مسؤولية الحكام..وانه لا يتأسس خير كثير على هدم مطلق ولذا لم تكن الثورة التونسية ثورة هدم بل سعت إلى الحفاظ على ما اعتبرته مكاسب دولة الاستقلال لتؤسس عليها لا لتنسفها ..
لسنا ندري كيف نخرج من الحلقة المفرغة للشيطنة والشيطنة المضادة ولا نريد كذلك للأغلبية الحاكمة أن تزهو بحجمها العددي ولا للمعارضة أن تنغلق حول «أساسياتها» وتنسى أو تتناسى حاجة البلاد إليها خارج بعض هذه «الأساسيات» ..
لقد فقدنا في تونس تلك الشخصيات الاعتبارية والتي كانت تمثل سلطة معنوية لأنها فوق الحسابات الحزبية والمذهبية الضيقة..
وحده رئيس الجمهورية يمكنه أن يلعب هذا الدور الجامع شريطة أن يكون فوق الحسابات والصراعات وان يبعث ما يكفي من إشارات لتبيان أن حاجة البلاد إلى مصالحات فعلية لا تعني فقط بعض الموظفين والوزراء زمن حكم بن علي بل وبالأساس مصالحة مع تونس اليوم ،وخاصة مع تونس التي لم تصوت له في 2014 أو التي أصيبت بخيبة أمل بعدها..
المكانة الدستورية لرئاسة الجمهورية تعطي للباجي قائد السبسي هذه الإمكانية..
هذا لا يعني إقحام الجبهة الشعبية والتيار الديمقراطي وحراك تونس الإرادة في الحكومة ولكن إشراكهم في الحوار الوطني حول مستقبل البلاد والخيارات الاقتصادية والاجتماعية الكبرى..حوار يشمل المعارضة السياسية والمجتمعية وكل أصناف الاحتجاج الاجتماعي لا للاتفاق ضرورة على خارطة طريق بل لإطفاء فتيل الفتنة ولكي نتعود على محاورة بعضنا دون تخوين أو إخراج من الملة أو من الوطن..وهذا يستدعي كذلك من كل الغاضبين والمعارضين تقديم الأهم على المهم والخروج من دور المحتج المطلق إلى المعارض المساهم بمقدار في عملية البناء..
ديمقراطيتنا الغضّة واقتصادنا الهش ومجتمعنا الجريح محتاجة إلى جذع مشترك يجمعنا كلّنا وعلى أساسه ندير خلافاتنا اما حروب الكل ضد الكل التي نرى بعض الداعين لها في كل الأوساط فانها لا تؤسس الا للخراب.
إننا على شفا حفرة من النّار..ولا ندري من سينقذنا منها ...