هذا الكابوس الذي دمّر وقتّل وروّع العالم بصدد لفظ أنفاسه الأخيرة كتنظيم ذي قدرة قتالية وقدرة إيذاء واسعة خاصة بعد خسارته المدوية وفي «عاصمته» الثانية الرقة السورية بعد ان دحر من «عاصمته» الأولى في الموصل العراقية..
لا أحد يملك اليوم معطيات دقيقة حول عدد القتلى والأسرى في هذه المعارك الشرسة ولا أحد يعلم اليوم على وجه الدقة ما هي الحالة التنظيمية واللوجيستية والنفسية لما تبقى من تنظيم داعش الإرهابي داخل الأراضي السورية والعراقية على وجه التحديد..ولكن الواضح للعيان بأن خسائر داعش ليست فقط عسكرية أو مجالية بل هي خسائر ستكون أعمق بكثير من سقوط «عاصمتي» خلافته الدموية..
لا أحد يمكنه أن يقول بأنّ الإرهاب السلفي الجهادي المعولم قد انتهى ،فالأرجح أن البشرية مازالت ستقاسي من ويلاته على امتداد سنوات وربّما عقد أو عقدين آخرين ولكن الثابت أن صفحة قد طويت وأن «حلما» كابوسيا قد انهار وان جغرافيا الإرهاب المادية والذهنية ستشهد تحولا عميقا لا يلمس فقط في العراق وسوريا ولكن في كل بلد اكتوى بهذه الآفة بدءا من تونس..
قلنا في مناسبات عديدة أن أحد أسرار قوة جاذبية داعش فيما مضى كان في قدرته على خلق مجال ممتد بسط فيه نفوذه وأقام فيه «دولته» فأصبح هذا المجال هدفا لـ«هجرة» عالمية مكنت من استيعاب بعض عشرات الآلاف من الإرهابيين شرقا وغربا ومن تمثيل «حلم» لأضعاف أضعافهم في مختلف الأصقاع التي شهدت نموا صاروخيا لدى فئات من الشباب لهذا «الجذب» الداعشي هذا دون الحديث عن التنظير الديني لبعث «الخلافة» من جديد وما صاحبه من أساطير وشعوذات حول «الأصول» القرشية لمن سمى نفسه بابي بكر البغدادي وكل الأدبيات التي بررت لا فقط شروط التمكين لإقامة إمارة سلفية جهادية إرهابية على نمط طالبان في أفغانستان في تسعينات القرن الماضي بل في إقامة دولة عابرة للحدود اليوم وللقارات غدا..
شروط التمكين هذه والتي كانت محل سجال فقهي بين مختلف الجماعات الجهادية قد أثبتت اليوم بأنه أكذوبة كبرى لا فقط عند كل ذي عقل سليم ولكن حتى عند هؤلاء الدواعش المنجذبين لهذا الكابوس الدموي..فلا خلافة ولا دولة ولا إمارة ولا حتى دويلة ،بل ولا ملاذ امن لا داخل العراق وسوريا اليوم ولا خارجهما..
فأول انهيار لداعش الإرهابي بعد انهياره العسكري هو انهيار جاذبيته مقارنة بالتنظيمات الإرهابية الأخرى كالقاعدة ومشتقاتها..كما أننا سنعيش لأشهر ولسنوات على وقع الصراع والاقتتال الداخلي للفلول الداعشية.. بداعي المغالاة في الوفاء للحلم الأول
ويبقى السؤال المهم : هل علينا أن نخشى من عودة كثيفة للدواعش التونسيين من سوريا على وجه التحديد ؟..
لا نملك إجابة دقيقة ولا نهائية عن هذا السؤال ..الأكيد أن تأهب الأجهزة الأمنية في بلادنا على أشدّه من مثل هذا الاحتمال ،لكن الاعتقاد بأن تونس ستكون الوجهة المقبلة لآلاف الدواعش هو اعتقاد مبالغ فيه إذ نحن لا نعلم كم هو عدد الناجين من هذه الحروب الأخيرة ولا نعتقد أيضا أنه سيكون ميسورا لهم التخطيط لعودة محتملة،بل لعل اغلبهم لن ينجو من الفخ السوري اليوم وإن تمكن بعضهم من الإفلات من مختلف الميليشيات والجيوش المعادية للإرهابيين على التراب السوري فطريق العودة إلى تونس أو ليبيا ستكون محفوفة بالمخاطر لأن الدواعش قد فقدوا جزءا كبيرا من الخلايا اللوجيستية التي كانت تسهل عملية التسفير والترحيل..
لا نقول كل هذا لكي نهون من خطر عودة الدواعش..فهذا خطر حقيقي لابّد من التوقي منه بكل ما نملك من جهد وطاقة ،ولكننا لسنا أمام عملية «غزو» مدبرة ومحكمة ،بل نحن أمام عمليات فرار فردية أو جماعات محدودة وأمام محيط إقليمي ودولي لن يتساهل مع هذه الشظايا وإن كانت هذه المخاطر تستوجب منا مزيد إحكام تعاوننا الاستخباراتي إقليميا ودوليا حتى لا يحصل اليوم ما حصل لبلد كالجزائر بعد الحرب الأفغانية أو لمالي بعد سقوط نظام القذافي بليبيا..
يبقى أن نعلم بأن الإرهاب السلفي الجهادي المعولم ما بعد داعش قد يكون أعنف في بعض مظاهره كاستهداف «عامة المسلمين السنة» في تونس أو غيرها ولكن مساحة هذا العنف ومجالات عمله ستكون اقل امتدادا مجاليا وبشريا واضعف تنظيما ،ولكن التحدي الأكبر لبلادنا هو أن نحول الانحسار الموضوعي لداعش إلى واقع ملموس عند الفئات الشبابية التي انجذبت إلى هذا الكابوس أو اقتربت منه..
فحربنا اليوم ضد الإرهاب لن تكون فقط أمنية في المرتفعات الغربية ضد المجموعات القاعدية أو الداعشية أو لتفكيك الخلايا داخل المدن والقرى..حربنا ضد الإرهاب ينبغي أن تكون بشرية أي أن تهدف إلى انتشال الآلاف من الشباب من هذه العوالم المظلمة والدموية..
هي حرب استرداد مجالي (ضد مجموعات مسلحة) وبشري (ضد الأفكار الإرهابية) حرب هدفها استرداد القلوب والعقول تقوم على تفكيك الخطاب السلفي الجهادي المعولم وعلى بيان تهافته هذا على المستوى الفكري اولا والاشتغال على العوامل النفسية والاجتماعية التي تجعل من بعض شبابنا منجذبين إلى هذه التنظيمات الإرهابية..
نحن اليوم أمام نافذة تاريخية لنحول هزيمة داعش العسكرية إلى هزيمة دائمة ونهائية ولكن لهذه النافذة شروط واكراهات لعلنا لم نستعدّ بعد لها كلّها..