تم أخيرا إيداع مشروع قانون المالية بمجلس نواب الشعب لندخل في مرحلة ثانية وهي مناقشة الأرقام الفعلية للتوازنات الكبرى وللإجراءات الجبائية المصاحبة بدل مناقشة التسريبات والأرقام الجزئية التي كان يرمى بها هنا أو هناك.
تخصّ «المغرب» قراءها اليوم بأهم أرقام التوازنات الكبرى الواردة في الوثيقة الحكومية.
عندما نقف عند التوازنات الكبرى لمشروع ميزانية الدولة لسنة 2018 نلاحظ ما يلي :
• ارتفاع حجم الميزانية إلى 35851 مليون دينار بعد أن كانت ميزانية السنة الحالية في حدود 32400 مليون دينار (قبل مراجعتها في مشروع قانون الميزانية التكميلية لـ2017) فالارتفاع بالأسعار القارة (أي دون احتساب التضخم) هو في حدود %3.4 أي أكثر بحوالي %50 من تطور الناتج المحلي الإجمالي (حوالي %2.2 أو %2.3 حسب أفضل التوقعات ) وهذا يعني أن نسق نمو الإنفاق العمومي في مجمله مازال أرفع من نسق نمو اقتصادنا بما يعني ذلك مواصلة الضغوط على المالية العمومية (تفاقم حاجات الاقتراض) والعبء الذي أصبحت تمثله الميزانية ككل..ففي سنة 2010 كانت ميزانية الدولة تمثل حوالي %30 من الناتج الإجمالي المحلي أما ميزانية 2018 فهي ستتجاوز على الأرجح عتبة %34 . وهذه الأرقام تدل لوحدها على أنّ بلادنا تعيش فوق إمكانياتها الحقيقية وأننا نجني النتائج الوخيمة لسبع سنوات من النمو الهش مقابل التفاقم الكبير للإنفاق العمومي..
• كتلة الأجور هي أحد العناصر التي تفسر تفاقم الإنفاق العمومي إذ ازدادت بين ميزانيتين بحوالي مليار دينار لتمر من 13700 مليون دينار إلى 14751 مليون دينار. وفي الحقيقة فالرقم الأول قد تم تجاوزه لأنه لم يأخذ بعين الاعتبار تفعيل بعض الاتفاقيات خلال السنة.. ولكن الأهم من هذا كله أن كتلة الأجور في سنة 2018 لم تأخذ هي بدورها في الاعتبار المفاوضات التي ستحصل في ربيع السنة القادمة والتي ستسفر على الأرجح عن زيادات في الوظيفة العمومية تبدأ من شهر ماي القادم أي أننا سنتجاوز عتبة 15 مليار دينار ..
• عنصر ثان يفسر انزلاق الإنفاق العمومي وهو الازدياد الكبير في حجم خدمة الدين العمومي الذي سيتجاوز هذه السنة 7 مليار دينار بقليل ويناهز 8 مليار دينار في سنة 2018 (7972 مليون دينار تحديدا)..
وكما يؤكد ذلك كل خبراء الاقتصاد فإن الإشكال الرئيسي ليس في نسبة الدين العمومي من الناتج المحلي الإجمالي بل في خدمة الدين العمومي أي ما تدفعه الدولة سنويا من أصل الدين ومن فوائده..
إن ارتفاع وتيرة التداين العمومي من %41 سنة 2010 إلى %70 سنة 2017 وشروط تسديد قروض عديدة خلال هذه السنوات السبع الماضية جعل حجم خدمة الدين تفوق للعام الثاني على التوالي حجم الاستثمارات العمومية ولكن الأخطر من ذلك هو اقترابه الشديد من حاجيات اقتراض الدولة سنويا .. أي أننا قد نقترض في السنوات القادمة لتسديد ديوننا فقط لا غير ...
• وكنتيجة مباشرة وآلية للزيادة الكبيرة في كتلة الأجور وفي خدمة الدين شاهدنا تراجعا نسبيا في ميزانية الاستثمار إذ تقلصت بحوالي نصف مليار دينار لتكون في حدود 5743 مليون دينار ولكن الجديد هذه السنة هو أن جملة المبالغ التي سترصد للمشاريع التي ستنطلق هذه السنة قد ارتفعت بصفة ملحوظة من 7.4 مليار دينار في 2017 إلى أكثر من 9 مليار دينار في السنة القادمة بما يفيد أن هنالك انطلاق مشاريع ضخمة في البنية التحتية وان انجازها يتجاوز حدود السنة كما أن الحكومة سعت لتعويض هذا التراجع النسبي في الاستثمار العمومي بما يسمى بالعنوان الثالث في الميزانية أي المشاريع التي تقع في إطار الشراكة بين القطاعين العام والخاص والتي قدرت الحكومة أن حجمها سيتجاوز 5 مليار دينار على امتداد ثلاث سنوات (من 2018 إلى 2020)
• مقابل هذه الاكراهات التي اشرنا إليها فإن تدخل الدولة لدعم المواد الأساسية والمحروقات لن يتراجع في حجمه الإجمالي (1570 مليون دينار للمواد الأساسية و1500 مليون دينار للمحروقات) وان كان سيعاد توجيه بعضه للفئات التي تحتاجه أكثر من غيرها..
الضغوطات ستكون كبيرة جدا على مشروع قانون المالية لسنة 2018 فاكراهاته المركزية والتي اشرنا الى أهمها لا تترك هامشا كبيرا للفعل وكل السياسات المزمع انتهاجها من تشجيع الاستثمار والتصدير والمؤسسات الصغرى والمتوسطة وخلق مواطن الشغل (والتي سوف نأتي عليها بالتفصيل في عدد لاحق) لا تؤتي أكلها في عام أو عامين فتونس تحتاج بصفة ملحة إلى ترشيد إنفاقها العمومي كلما تيسر ذلك وان تكثف في نسق نموها فذلك هو الحل الوحيد لازمة المالية العمومية والبطالة وغيرها من المنظومات الاقتصادية والاجتماعية..
إن كل نقاش لتفاصيل مشروع قانون المالية من إحداث أداءات وضرائب جديدة والترفيع في أخرى ينبغي أن يأخذ بعين الاعتبار هذه التوازنات الكبرى والاكراهات الموضوعية المرتبطة بها..
تريد حكومة يوسف الشاهد أن تجعل من سنة 2018 سنة بداية الإصلاحات وهذا ما سيحصل فعلا في الصناديق الاجتماعية ومنظومة التقاعد بعد أن ضمنت الحكومة موافقة مبدئية ولكنها مشروطة من قبل الهيئة الإدارية لاتحاد الشغل..ولكن قطار الإصلاحات قد تعطل في ملفات كثيرة أهمها الوظيفة العمومية والمؤسسات العمومية والتثمين الأفضل لقدرات الدولة وممتلكاتها..
وايا يكن من حال فميزانية 2018 ستكون ميزانية انتقالية هدفها الأساسي هو تحقيق نسبة نمو بـ %3 وهو ما عجزت عنه بلادنا منذ الثورة إلا في مناسبة واحدة كانت في 2012 ولكنه كان نموا سيئا لأنه اعتمد بالأساس على الارتفاع الضخم في عدد الموظفين (أكثر من مائة ألف انتداب أو تسوية وضعية) وبالتالي على كتلة التأجير العمومي..
فالمناط بعهدة موازنة السنة القادمة هو الخروج النهائي من النمو الهش ولو نجحت تونس في هذا التحدي الأساسي لحق لنا النظر في التحديات الاقتصادية والاجتماعية بأكثر تفاؤل أما لو واصلنا نسق النمو الهش فسيزداد النفق ضيقا وظلمة..