فمنذ استقالة شفيق صرصار رئيس الهيئة واثنين من أعضاء مجلسها في افريل الماضي دخلت هيئة الانتخابات في أزمة متصاعدة ومتفاقمة ..
البداية كانت من داخلها إذ قال الأعضاء الثلاثة المستقيلون بأنهم أضحوا يخشون على استقلالية الهيئة (اي الأعضاء الستة الباقين) وقدرتها على الإشراف على انتخابات حرّة ونزيهة..ثم كان لدينا مسلسل الترميم الذي لم يتم إلا في شهر سبتمبر الماضي ثم بعد ذلك عجز مجلس نواب الشعب عن انتخاب رئيس مجلس الهيئة .ولقد أدى كل ذلك إلى نتيجة خطيرة تجاهلها جلّ الفاعلين السياسيين وهي تأخير موعد الانتخابات البلدية والتي كان من المزمع عقدها يوم 17 ديسمبر 2017..
وبما أن الكوارث لا تأتي وحدها انضافت إلى هذه الأزمات أزمة التجديد الثلثي الثاني كما يفرضه ذلك الدستور أي إجراء قرعة يغادر بموجبها ثلاثة أعضاء الهيئة كما حصل ذلك في مناسبة أولى في جانفي 2017 ( بتأخير سنة عن الآجال الدستورية والقانونية) وهنا أصبحنا أمام أزمتين : أزمة داخلية وأزمة بين مؤسسات الدولة ذاتها..
أزمة المؤسسات تجلت في إصرار مجلس نواب الشعب على اجراء القرعة قبل يوم 8 أكتوبر كما ينص على ذلك القانون وموقف الهيئة الذي يصر على انتخاب الرئيس قبل إجراء القرعة استنادا إلى الرأي الاستشاري للمحكمة الإدارية وأزمة داخلية حول المعنيين بالقرعة وهل يدخل الأعضاء الثلاثة الجدد الذين تم انتخابهم في إطار عملية سد الشغور..
ورغم رأي المحكمة الإدارية القاضي باعتبار هؤلاء الأعضاء الثلاثة الجدد مندرجين ضرورة في عملية القرعة باعتبارهم جاؤوا في إطار تسديد الشغور بعد استقالات ثلاث وان هذه الاستقالات لا يمكن أن تعد بأي حال من الأحوال رديفا لقرعة التجديد الثلثي إلا أن الأعضاء الجدد أصروا على عدم اعتبارهم معنيين بهذه القرعة وأنهم قد يستقيلون لو تم إدراجهم فيها .
خلص مجلس الهيئة يوم أول أمس إلى قرار غريب مخالف للعقل والمنطق القانوني البسيط إذ اعتبر أن استقالات الربيع الماضي هي بمثابة التجديد الثلثي وبالتالي فلا موجب للقرعة ولا موجب لتجديد جديد..
والغريب أن مجلس الهيئة الذي رفع إجراء القرعة قبل يوم 8 أكتوبر بالاعتماد على الرأي الاستشاري للمحكمة الإدارية قد ضرب به عرض الحائط في مسألة التجديد الثلثي وبالتالي فقد كل شبهة حجة قانونية في عملية لي الذراع الواضحة التي أصبحت بينه وبين مجلس نواب الشعب..
فرفض مجلس هيئة الانتخابات لإجراء قرعة التجديد الثلثي الثاني والأخير كما يطالب بذلك مجلس نواب الشعب وكما هو منطوق القانون ذاته سينتج عنه ولاشك رفض البرلمان لانتخابات رئيس للهيئة والأخطر من كل ذلك بأن تصبح هيئة الانتخابات، وهي من مفاخرنا السياسية الأساسية بعد الثورة ، كيانا خارجا عن القانون..
والسؤال المحيّر هل تستطيع الهيئة في وضعيتها هذه إجراء الانتخابات التشريعية الجزئية بدائرة ألمانيا بعد شهرين من اليوم وهل بإمكانها الاستعداد للانتخابات البلدية التي حددت موعدها الجديد ليوم 25 مارس 2018 ؟ !
نحن نعلم أن أحزابا كثيرة داخل الائتلاف الحكومي وخارجه لا تريد إجراء انتخابات بلدية ، بل لعلّ بعضها لا يريد إجراء انتخابات في المطلق فالوضعية الحالية مريحة للعديدين داخل الحكم وخارجه وانتخابات معقدة كالانتخابات البلدية ستفسد حسابات الكثيرين ،وأزمة هيئة الانتخابات بالنسبة لكل هذه الأحزاب هي هدية سماوية تسمح بتأجيل لا متناهي للانتخابات المحلية دون أن يتحمل أحد مسؤولية هذا الإخقاق الجلل ..فالأحزاب تقول بأن هيئة الانتخابات هي التي تخرق القانون والهيئة ستتعلل بأنها أضحت ألعوبة بيد الأجندات الحزبية..
ما نخشاه أن يستمر الهروب إلى الامام من كل الجهات وأن نصل إلى وضعية تصبح فيها البلاد عاجزة عن إجراء اي صنف من الانتخابات بما في ذلك التشريعية الجزئية في ألمانيا إذ حتى على فرض حصولها فسيتم الطعن فيها لأن الهيئة التي أشرفت على العملية أضحى مطعونا في قانونيتها..
ليس من المفيد أن نبكي على الأطلال وان نغرق جميعا في ميلودراما المحاسبة المتبادلة..المهم هو أن نوقف هذا التصعيد وان تلتزم كل الأطراف باحترام الإجراءات القانونية على عبثها أحيانا ..إذ من العبث أن نقحم من تم انتخابه منذ أسبوعين في عملية قرعة قد تخرجه من الهيئة دون أن يفعل شيئا..ولكن هذا العبث اقل خطرا من العدمية التي قد تبعث البلاد كلها إلى المجهول..
الاستقالة ليست قرعة أو خروجا طوعيا في إطار قرعة للتجديد الثلثي ومن قبل بالترشح لسد الشغور يعلم مسبقا بأنه يعوض أعضاء مستقيلين وانه يجري عليه ما يجري عليهم..
المهم اليوم هو تجاوز الحسابات الذاتية الضيقة والمفسدة للمصلحة الوطنية وان ينتخب مجلس نواب الشعب رئيسا للهيئة وفق الرأي الاستشاري للمحكمة الإدارية وبعد ذلك تقوم هيئة الانتخابات فورا بقرعة التجديد الثلثي وفق ما حددته المحكمة الإدارية لا وفق ما تريده الإرادات الشخصية حينها ،وحينها فقط ،نستعيد المسار السوي على صعوباته..أما لو أصرّ كل طرف على موقفه فستكون الكارثة..كارثة تتجاوز هيئة الانتخابات وأعضاء مجلسها لتهدد في العمق المسار الانتخابي والديمقراطي الهش في البلاد..