معه والإيمان بأن لا خير يرجى منه وأنّ الأمل – إن كان هنالك أمل – يكون إما بتدميره أو بمغادرته أو بتدمير الذات نهائيا..
لا ينبغي المبالغة..ما كلّ شبابنا منخرطا في هذه السلوكيات الخطرة، بل إن الأرقام تفيد بأن جلّ شبابنا بعيد عن هذه السلوكيات أو عن أكثرها خطورة ودمارا ولكن لابد من الإقرار بأن هذه السلوكيات بصدد الانتشار السريع وأن رقعتها تتوسع باستمرار وأن جزءا من المجتمع ممثلا في عائلات هؤلاء الشباب أصبح يحثهم على الإمعان في هذه السلوكيات الخطرة..
لاشك أننا أمام قصص مأساوية فردية وجماعية تستند كلها إلى مخيال طوباوي لا يرى من الألوان سوى الظلمة والنور ،فنحن امام مرويات لم تعد تربط بين النجاح والعمل ولم تعد ترى أن النجاح المهني والمادي والعاطفي إنما هو مسار شاق فيه بذل جهد كبير..
في مخيال شبابنا هذا ثنائية قاتلة : الجهد والاجتهاد في بلادنا طريق مسدود والنجاح لا يوجد إلا خارجها جغرافيا (كالحرقة) أو زمنيا (كالانتحار والإدمان على المخدرات والانخراط في الجماعات الإرهابية)
نحن مدعوون الى جهد كبير لحسن إدراك العوامل الاجتماعية والنفسية المعقدة التي تقف وراء هذه السلوكيات الخطرة إذ لا وجود لتفسير بسيط لهذا اليأس المطلق من البلاد..
كل الدراسات الاجتماعية في العالم تبيّن بأنّ الأمل يتوطد في المستقبل كلّما كثر الاقتناع بأنّ الأبناء سيعيشون في ظروف أفضل من الآباء ،ويتراجع هذا الأمل إلى حدود الاضمحلال كلما ساد الانطباع العكسي..كما تبين تجارب الأمم أن جيلا ما مستعد للإقدام على التضحية لو حصل لديه اقتناع بأنه سيوفر للجيل الذي يليه ظروف حياة أفضل..
ولكن هذا يفترض أن تكون قيمة القيم عند أهل الجيل الذي سيقدم على تضحية تاريخية هي العمل ،وأن العمل والجدّ والاجتهاد سوف يؤتي أكله لا على المدى القريب بل على المديين المتوسط والبعيد..
هكذا أقلعت دول آسيوية كثيرة تعد اليوم قصص نجاح حية اقتصاديا ومعرفيا..
كنّا نأمل من الثورة أن توفّر لنا حلما جماعيا نخلق منه وبه مستقبلا عظيما لبلادنا ولأجيالنا القادمة..ولكن ما هو حاصل – إلى حدّ الآن على الأقل – أن تعاملنا السحري مع الأحداث جعلنا نعتقد بأنّه بمجرد هروب الطاغية سوف تعم بحبوحة العيش الجميع ،ثم تنامت في بعض الأوساط الاجتماعية والشبابية تحديدا فكرة أن البلاد غنية ولكنها منهوبة من «المركز» ، إذن لو قضينا على المركز لقضينا على مشاكل البطالة والتهميش والفقر..
حكم الاستثراء السريع هو الذي يحرك مخيال جل من يقدم على «الحرقان» رغم علمهم بالمخاطر الجمّة التي تهدد حياتهم ولكن بعض قصص «النجاح» وبعض الإشاعات التي يروجها منظمو رحلات الموت هذه توفر لهذا الحلم عناصر البقاء والألق فتتجند العائلة لتوفير بعض آلاف الدنانير للحارق قصد تحقيق هذا الحلم الكابوس..
فنحن بعيدون جدّا عن نموذج العائلة الصينية التي تشتغل بكد وعناء على امتداد عقود من أجل توفير ظروف حياة أفضل لطفلها الوحيد..
نحن على طرفي المخيال البشري : النجاح اليوم ولو أدى ذلك إلى مجابهة الموت أو النجاح المؤجل عبر حياة من الكدّ والعمل..
لا أحد يطالب العائلة التونسية اليوم بأن تكون كالعائلة الصينية في تسعينات القرن الماضي ولكن ما نلاحظه في كل هذه السلوكيات الخطرة وفي غيرها أيضا أن قيمة العمل عندنا قد تلاشت وان شبابنا لم يعد مستعدا للكدح الطويل مقابل تحسن طفيف لا تقطف نتائجه إلا بعد عقود من الزمن..
لقد ترسّخت في قطاعات واسعة من مجتمعنا قبل الثورة وبعدها انه لا خيار لنا سوى «الدمّار» أو الربح الآني السريع ولا يهم كيف جاء هذا الربح وماهي مصادره ومدى شرعيته ومشروعيته..
ما نخشاه على شبابنا هذا وعلى بلادنا بصفة أعم أننا بصدد تدمير ممنهج لقيمة العمل والجهد والكدّ ، فان عمّ هذا عندنا فلن نحصد بعد «الدُمّار» غير الدّمار..