هذا لا يعني أن زيارة رمز الدولة لمكان ما في الجمهورية هي زيارة مسؤول عادي..فلكل تحركات رئيس الجمهورية رمزية مهمة لا ينبغي التقليل من أهميتها ولكن المبالغة والتصنع هما المنبوذان دوما..والواضح أن المسؤولين الجهويين قد أرادوا أن يجعلوا من هذه الزيارة حدثا استثنائيا – ولهم الحق في ذلك – ولكنهم نهلوا من وحي التجارب القديمة الممجوجة فغابت التلقائية وحضر الاصطناع ومشاهد خلنا اننا قطعنا معها إلى الأبد..
إن إخراج التلاميذ من المدارس لاستقبال رئيس الدولة بالأعلام لا ينتمي لقاموس الديمقراطيات ولا لأعرافها ..والواضح أن المسؤولين الجهويين قد أساؤوا بهذا الصنيع لرئيس الدولة أولا وللتقاليد الديمقراطية التي نريد ترسيخها بعناء في هذه البلاد ..
والمؤسف حقّا هو أن هذا البهرج المبالغ فيه قد غطى على الأهم في هذه الزيارة وهو الجهد التنموي في الولاية في القطاعين العام والخاص معا ..
لقد كانت زيارة رئيس الدولة إلى ولاية سوسة فرصة له ولبقية التونسيين للوقوف على تقدم أشغال انجازات مهمة للجهة كمحطة التطهير سوسة-حمدون وتوسعة الملعب الاولمبي لكي يتسع لأربعين ألف متفرج في المستقبل وغير ذلك من المشاريع المتصلة بالإنفاق العمومي ولكن هناك جهد كبير يبذله القطاع الخاص ولاسيما تشييد اكبر مركب تجاري في الجمهورية التونسية بمدينة القلعة الكبرى والذي سيشغل بمفرده 2500 عامل وإطار. لاشك أن لولاية سوسة ولكل جهات الجمهورية مشاكل عدة هيكلية وظرفية وزيارة رسمية لا يمكنها أن تقف على كل هذا ..والمفروض أن يكون الاهتمام بهذه المشاكل هو الشغل اليومي للسلط الوطنية والجهوية..
لقد أراد رئيس الدولة أن يطبع زيارته بطابع خاص وهو تونس الناجحة والعاملة والمجتهدة ..تونس التي تستثمر وتنجز وتراهن على المستقبل رغم صعوبات الراهن ..وهذه الصورة ايجابية تستحق الوقوف عندها ..وتونس هذه موجودة في كل جهات الجمهورية وفي كل فئات مجتمعنا دون أن نقلل من أهمية بل وتراجيدية تونس التعبانة والتي يكاد ينسد الأفق أمامها.. تونس التي فقدت الأمل في تحسين وضعيتها والتي تخشى على أبنائها مستقبلا أسوأ من الحاضر التعيس..
ومن مسؤولية الدولة أن تنوه وتشجع تونس الناجحة المستثمرة المتحفزة وأن تأخذ بيد تونس الأخرى التي لم تتمكن من سبل النجاح وهي وإن تجتهد وتثابر وتضحي ولكنها لا تجد الوسائل والسبل التي تسمح لها بتحقيق حلمها وأهدافها .. إنها ثروتنا المهدورة وطاقاتنا البشرية التي لم نوفق في حسن استغلالها حتى تستفيد هي وتفيد معها البلاد بأسرها..
كنّا نتمنى لو تطابق الشكل مع مضمون الزيارة الرئاسية أي تطابق المهم مع الأهم حسب العنوان الذي اختاره الباجي قائد السبسي ليروي جزءا من مسيرة الزعيم الراحل الحبيب بورقيبة ..و«المهم» في كتاب رئيس الدولة هو أخطاء التفرد بالسلطة والحكم الفردي والحاشية التي أحاطت بالزعيم فأفسدت صورة «الأهم» وهي الإصلاحات الثورية لمؤسس الدولة العصرية..
فالمهم هنا هو ذلك الزبد الذي يذهب جفاء والذي كان الشغل الشاغل الوحيد للسلط الجهوية ..أما ما ينفع الناس فهو تثمين الجهود التنموية وتونس الناجحة في سوسة وفي كل ولايات البلاد..
ولكن الزبد عادة ما يطغى على المشهد كله فيفسد بذلك الأهم ويغشاه ..ولكن ينسى كل أنصار «المهم» أن أحلامهم إنما هي اضغاث يسفهها كل ذي عقل سليم ..