وأخيرا جاءتنا الإصلاحات الموجعة والتي كثيرا ما وعدنا بها منذ سنة 2014 ولكن الواضح أن الاصطدام العملي بها سيبدأ في سنة 2018..
أهم هذه «الإصلاحات الموجعة» هو ما جاء في الوثيقة التي أعدتها مؤخرا الحكومة تحت عنوان «البرنامج الاقتصادي والاجتماعي في أفق 2020 : خارطة الطريق» هي مراجعة جذرية لمنظومة التقاعد في كل مستوياتها وأبعادها ويمكن أن نلخص كل هذه الإجراءات في الشعار التالي : «اخدم أكثر،اخلص أقل»..
لا يناقش أحد في أن منظومة التقاعد في القطاعين العام والخاص قد وصلت إلى طريق مسدود وان الصندوقين المخصصين لهما قد استنفدا كل مواردهما وأضحيا في حالة تداين هيكلي متفاقم وان مجموع الديون المتراكمة قد يبلغ في أفق سنة 2020 حوالي 5 مليار دينار إذا ما تواصل الحال على ما هو عليه الآن ..
لقد طرح هذا الملف بقوة منذ حكومة المهدي جمعة ولكن لم تقدم أية حكومة على مجابهته فازداد حال الصناديق سوءا..
ويبدو أن حكومة يوسف الشاهد 2 تنوي من خلال الوثيقة التي اشرنا إليها معالجة هذا العجز الهيكلي بصفة جذرية وعلى مدى سنوات قليلة..
• أول إجراء هو ايجاد ضريبة جديدة سميت «المساهمة الاجتماعية التضامنية» وقدرت بـ%1 على دخل الأشخاص الطبيعيين الخاضع للأداء والمتوقع أن يتم الاتفاق على حد أدنى من الدخل والذي لا تطبق هذه المساهمة دونه.. وستوفر هذه المساهمة لوحدها حوالي 260 مليون دينار أي نصف تمويل الدولة لعجز صناديق الضمان الاجتماعي لهذه السنة..
• الإجراء الثاني يتعلق بالترفيع في سن التقاعد في النظام العام من 60 إلى حدود 65 سنة بداية من السنة المقبلة مع احتمال ترفيع إجباري بسنة أو سنتين أو ثلاث حسب التفاوض مع الطرف الاجتماعي مع التشجيع على الترفيع الاختياري بالنسبة للسنوات المتبقية وسوف يتم البدء بالقطاع العام وسيكون للقطاع الخاص نفس المآل والتحفيز سيكون بالترفيع في مردودية السنوات لمن اختار الوصول إلى 65 سنة كما قد يتم تخفيض السنوات الأخرى لمن يرفض التمديد.
• المعلوم أن جراية التقاعد تحتسب في القطاع العام على أساس أجر مرجعي وهو أفضل سنتي التأجير للموظف مع تحيينها باعتماد عدة معايير من بينها نسبة التضخم.
الحكومة تقترح في وثيقتها احتساب السنوات الثلاث الأخيرة دون تحيين ابتداء من 2018 والخمس سنوات الأخيرة دون تحيين كذلك انطلاقا من جانفي 2019..أي أن الأجر المرجعي سينخفض ببعض النقاط ضرورة في كل الحالات
تحتسب الجرايات العمرية كما هو معلوم وفق عملية حسابية : مردودية سنوات العمل X الأجر المرجعي . في طرق الاحتساب الحالية يمكن لموظف عمومي أن يتمتع،في الحالات القصوى بـ%90 من الأجر المرجعي إذا ما ساهم على امتداد أربعين سنة دون اعتبار التنفيل واحتسابه المعقد.. وتقترح الحكومة في هذه الوثيقة أن تحتسب مردودية سنوات العمل باعتماد نسبة %2 لكل سنة عمل ..أي أن الموظف الذي اشتغل على امتداد 40 سنة سوف يحصل على %80 فقط من الأجر المرجعي لا %90 كما هو الحال اليوم ..وهذا بالطبع لن يكون له مفعول رجعي اي انه سيطبق فقط على الخارجين الجدد للتقاعد..
• يضاف إلى كل هذه النقاط الترفيع في مساهمة الأجراء والمؤجرين في الصناديق الاجتماعية بنقطة واحدة للأجير وبنقطتين للمؤجر وقد يكون هذا دفعة واحدة سنة 2018 أو يمدد على سنتين (اي نصف نقطة للأجير ونقطة للمؤجر سنة 2018 ثم نقطة للأجير واثنتين للمؤجر انطلاقا من سنة 2019)
هذه جملة الإجراءات التي ستبدأ في التطبيق انطلاقا من السنة القادمة وقد يخضع بعضها للتدرج ولكن في سنوات محدودة..والوثيقة الحكومية لا تقول بالضبط ماهو معدل كلفة كل هذه الإجراءات على المتقاعدين الجدد ولكن الواضح أن الذي لا يختار التمديد إلى 65 سنة سوف يخسر حوالي عشر نقاط أو أكثر أي عشر جرايته لو احتسبت وفق مقاييس اليوم..
والإشكال هنا ليس في ضرورة إصلاح منظومة التقاعد بل في سرعة إنزال كل هذه القرارات مجتمعة على المتقاعدين الجدد والتأثير الأكبر سيكون لمن قاربوا الستين سنة وكانوا يعتقدون أن جراياتهم العمرية في مستوى معين فيفاجؤون بأنها دون ذلك بما لا يقل عن عشر نقاط وهي ضربة موجعة بكل المقاييس..
إصلاح منظومة التقاعد لا يهم حكومة بعينها ولا حتى التي تليها ..انه إصلاح المدى الطويل ففي بعض دول أوروبا الشمالية يعلم من يدخل اليوم للوظيفة العمومية في سنة 27 او 28 سنة بانه سيخرج للتقاعد في سن 72 سنة..
فالعقد واضح ولا يتغير الاحتساب في وسط الطريق او في نهايته..
فهذا التغيير الهام في احتساب كل مؤشرات جراية التقاعد ينبغي أن يستعد له الفرد المعني به بان ينخرط في نظام تكميلي مثلا ولكن هذا لا يؤتي أكله لمن كانت تفصله عن التقاعد سنوات معدودات..
من مقومات العقد الاجتماعي أن تكون قواعد اللعب واضحة ..فلا يمكن أن نغير كل شيء ، دفعة واحدة ّ، ودون السماح للمعنيين بالأمر بحسن الاستعداد ..
تونس بحاجة إلى إصلاح جدي لمنظومة التقاعد وبحاجة إلى صناديق اجتماعية غير عاجزة ولكن لا نصلح اختلال عقدين من الزمن في سنتين فقط بل قد يحتاج ذلك منا على الأقل عقدا من الزمن تتهيأ فيه أفواج المتقاعدين تدريجيا وفق إصلاح مفصل ودقيق على امتداد عقدين او ثلاثة ووفق اروقة تتاح لكل من يريد ان يحسن من شروط جرايته..
لا يشك احد منا في ضرورة إصلاح كل منظوماتنا الاقتصادية والاجتماعية ..ولكن الإصلاح لا يعني فقط الموازنة الحسابية بين المداخيل الحالية والمصاريف الحالية على أهمية هذه الحسابات ..يجب على كل إصلاح إقحام العنصر البشري وتهيئة المواطنين للاستفادة منه ولو على المدى المتوسط أما إصلاح كله خسارة للمعنيين به فحظوظ نجاحه ضعيفة وقد ندفع ضريبة ، اخفاقه أضعاف أضعاف ما كنا نعتقد أننا سنجنيه في سنة أو سنتين ...