تقريب وجهات النظر والحد من الذواتات المنتفخة والاقتناع بضرورة العمل المشترك..فنرى أحزابا عديدة تارة في الحكم وتارة في المعارضة أما في جل الوقت فهي في منزلة بين المنزلتين ..
في هذا الخضم كله وحده التحالف الندائي النهضوي صامد ومهيكل للحياة العامة رغم ما انتابه هذه الأشهر الأخيرة من تصدعات..
فهذا التحالف شبيه بالأنا المفكرة الديكارتية التي تثبت كالحقيقة الوحيدة الناجية من لجاج الشك..
من الناحية النهضوية ،أو بالأحرى راشد الغنوشي ومن يسير على خطاه التحالف مع نداء تونس مصيري وحيوي..وهذه القناعة وصل اليها زعيم الحركة الإسلامية في صائفة 2013 : لا يمكن للحركة الإسلامية أن تطمح للحكم بمفردها أو حتى أن تكون قائدة لتحالف حزبي كما كان الشأن زمن الترويكا وذلك على المديين القصير والمتوسط..بل إن وجود الحركة ذاته مهدد كما حصل مع نظيرتها في مصر إذ انتقلت في لحظات من ساحات القصور إلى غياهب السجون..
فالمعطيات الوطنية والإقليمية والدولية لم تعد تسمح للإسلام السياسي بقيادة دول ما سمي بالربيع العربي ..ومن هنا كان البحث عن مظلة وطنية حامية تقي الحركة الإسلامية شر التقلبات والعواصف السياسية والجيواستراتيجية..
وعندما أجال راشد الغنوشي النظر في كل مكونات الحياة الحزبية والعقائدية في البلاد سنة 2013 بعد الأزمة السياسية الخانقة التي نتجت عن اغتيال الشهيد محمد البراهمي في 25 جويلية 2013 انتهى إلى قناعة راسخة : وحدها الحركة الدستورية يمكن أن تكون الحليف الحامي للحركة الإسلامية وذلك رغم محن الماضي وآلامه..
ثم أجال راشد الغنوشي النظر ثانية فوجد أن النداء هو الممثل الأقوى والأقدر على لعب دور القاطرة داخل ما يسمى بالعائلة الدستورية رغم انخراط عدة شخصيات وتيارات «استئصالية» داخله آنذاك..أي أن الحليف الذي كانت تبحث عنه النهضة آنذاك كان في النداء ..ولكنه لم يكن كلّ النداء..ويمكن أن نقول بأن الإستراتيجية النهضوية كانت قد تبلورت منذ تلك الفترة بوضوح تام قبل أن تحصل نفس القناعة وبنفس القوة عند «شريك» المستقبل ..
فعندما نعود إلى كامل سنة 2014 لا نجد إلا كلمة واحدة ينطق بها النهضويون صباحا مساء ويوم الأحد : «التوافق» وهو ما جعل الحركة الإسلامية تعزف عن تقديم مرشح لها للانتخابات الرئاسية مكتفية فقط بالتنافس على مقاعد مجلس نواب الشعب..
فكرة «التوافق» كانت موجودة بصفة حدسية عند الباجي قائد السبسي سنة 2013 ولكن ليس كقدر محتوم بل كاحتمال تفرضه صناديق الاقتراع..
ولهذا كانت حركة النهضة أكثر جهوزية من النداء للتوافق منذ بداية هذه العهدة النيابية..ولهذا – ولعناصر أخرى متداخلة – تكسر البنيان الندائي الهش على صخرة توافق الشيخين وغادر النداء جل الشخصيات «الاستئصالية» التي كان يخشى منها الغنوشي وأصحابه على صلابة الوفاق الإسلامي الدستوري ..وهذا ما دفع ببعضهم إلى اعتبار أن النهضة ليست بريئة تماما من تناحر الشقوق الندائية وعلى كل حال فهي راضية تمام الرضا عن مغادرة كل الأعداء الإيديولوجيين للإسلاميين حركة نداء تونس ..
ينص العهد غير المكتوب بين النهضة والنداء أن الأولى تساند الثانية في كل معاركها ومشاريعها دون خذلان وان الثانية تقحم الأولى في الحكم وتحميها من غيلات الزمن وطنيا وإقليميا ودوليا..
هذا الإطار العام ضروري لفهم العلاقة الوفاقية الصراعية بين النهضة والنداء خلال الأسابيع الأخيرة ..فنحن لم نكن أمام نقض لهذا العهد من جانب واحد بل لإعادة الأمور إلى نصابها والى إحكام تموقع كل شريك والعودة إلى جوهر الاتفاق الأصلي ..نحن (النداء) الأمراء وانتم (النهضة) الوزراء ..أي نحن القادة وانتم التابعون فالشراكة في الحكم لا تعني التشارك فيه فالباجي قائد السبسي هو الحاكم وراشد الغنوشي هو التابع حتى لو كان أول التابعين..
فرئيس الدولة يدرك حدسيا بان النهضة مستعدة لكل التنازلات الفكرية والسياسية مادامت محمية وما دامت معترفا بها ومادامت عنصرا من العناصر الهامة في المشهد السياسي التونسي وضغطه الأخير عليها إنما هو لدفعها إلى سقف أعلى من التنازلات المجتمعية (كالمساواة في الميراث ) والسياسية (كالمصادقة على قانون المصالحة في المجال الإداري) والطريف في الأمر أن العديد من القيادات النهضوية تتنازل بصفة أيسر في المسائل المجتمعية القيمية رغم معانيها العميقة بالنسبة للإسلام السياسي بينما تعيش بعض هذه القيادات التنازلات السياسية بصفة درامية ..
ولكن الاحتياج المصيري النهضوي لمظلة النداء والباجي قائد السبسي يقابله دون شك احتياج ندائي لا يقل حيوية باعتبار أنه يصعب جدا ،في المدى المنظور، تعويض الوزن الانتخابي والشعبي النهضوي..فالحكم الندائي لو أراد الاستمرار مضطر إلى الارتكاز على تحالف قوي مع النهضة حتى يضمن أغلبية مستقرة..
نحن نعيش اليوم بداية النصف الثاني من العهدة الانتخابية للأغلبية الحالية وستكون نكهتها الأولى إعادة التوازن بين «جناحي» الوفاق بجناح متقدم وجناح تابع كما حال المروحيات العسكرية..
ولكن الواضح أن هذا التحالف سيعيش حالات من الإرباك الداخلي والخارجي وان كل طرف سيسعى للاستفادة القصوى من «زواج» العقل هذا..والواضح أيضا أن النداء والنهضة سيطالهما تحول هام إذا ما استمر التوافق لسنوات طويلة وسوف يخلق ضرورة فراغا سياسيا ينتظر من يملأه.. وهذا ما تأخر حدوثه إلى اليوم في تونس...