وها قد شارف رمضان على الانتهاء فما المحصلة وما الغنم الذي اكتسبه المشاهدون؟
لا شكّ أنّ انجذاب أغلب المشاهدين إلى المسلسلات المصرية والسورية واللبنانية كان على حساب البرامج الدينية التي كان حظها من المتابعة محتشما وهو أمر مفهوم ومتوقع نظرا إلى أنّ محتواها ظلّ موصولا إلى ثقافة النقل. فقد بقي أصحاب الخطاب حول الدين أسيري التلقين بدل اقتحام فضاء النقاش الحرّ والمعمق. ففي الوقت الذي برز فيه الجدل حول الحريات الدينية وحق اختيار الصوم أو الإفطار من عدمه واستأثر هذا الموضوع باهتمام الإعلام العربي والغربي فضلّ «أصحاب العمائم» تفصيل القول في عوائق الصوم والحالات التي يجوز فيها الإفطار وتوزيع الأجر حسب «رخصة الإفطار» فعرضوا النصوص الدينية وآراء الأئمة «الدمادم» وأقوال فقهاء المذاهب. ولم يكتف›الشيوخ› بذلك بل ميّزوا بين السفر الحلال و›سفر المعصية› وبشّروا المفطرين لعذر شرعي بجزيل الثواب ، وحثّوا الناس على أخذ رأي «الأطباء الذين يعرفون الله» وتجاوزوا الإخبار إلى الإفتاء.
وهكذا اطمأنت قلوب السائلين واستمتع المتصدون للفتوى و«العلماء» بالموقع المرموق في الإعلام البصري. فحمدا لله أن صار التونسي/التونسية يشاهد أصحاب الجبّة التونسية برونقها وجمالها وأشكالها وألوانها :الأبيض و»الخمري»، و«السواكي»... ويتدخل في البرامج الدينية مردّدا «سيدي الشيخ» منتظرا «الفتوى» المسيّجة بأفق الحلال والحرام «الزقوم» والدعاء «بالفلاح والرباح».
وفي الوقت الذي طرحت فيه فئة من التونسيين قضية الحريات الفردية من منظور حقوقي يصل الممارسة بما نص عليه الدستور من مواد تضمن حرية المعتقد وحرية الضمير، وفي الوقت الذي يعرف فيه التونسي/ة بأنّه مواطن تشير مقدّمة برنامج ديني على قناتنا الوطنية إلى موقفها من «المجاهر بالإفطار» فـ «الإفطار ظاهرة غريبة في مجتمعنا العربي الإسلامي التونسي... للأسف الشديد هذه الظاهرة انتشرت بلا حياء ... ومن يتعمد الإفطار والعياذ بالله....
تثبت هذه العيّنة الموضحة لطريقة تناول الشأن الديني إعلاميا:
- الفجوة بين طبيعة القضايا المطروحة في المجتمع و«المعالجة» الدينية وكأنّ منتج الخطاب حول الدين يصرّ على تجنّب ما يشغل الناس من قضايا «حارقة» قسّمت الناس وساهمت في بروز خطاب العنف والحث على الكراهية أو التكفير بل إنّه يحتمي بنصوص التوبة والمغفرة إن كان «وسطيا» أو يسترجع أخبار «جهنم وعذاب القبر» ويتوّعد من لم يقم بصوم رمضان بـ «بئس المصير» إن كان من فسطاط المتشددين.
- تخلّي رجال الدين عن الشجاعة العلمية والمسؤولية التي تفرض عليهم ممارسة الاجتهاد الفعلي وتطوير خطابهم ليتلاءم مع الواقع الحي المتحرّك وسدّ حاجات المسلم المعاصر وعجزهم عن التحوّل من عنصر «تخدير» للناس إلى عنصر مساهم في تنوير العقول .
- تبدو هذه البرامج الدينية معادية للعلوم الإنسانية وفي قطيعة مع العدة المنهجية التي وفرتها علوم حديثة كسوسيولوجيا الدين ، وأنتربولوجيا الدين ، وعلم النفس الديني وغيرها وكأنّ الزمن بقي زمن السلف الذين أنتجوا علوم الشريعة.
- توضح هذه البرامج تصور المنتجين والمسؤولين للبرامج الدينية الذي بقي تصورا كلاسيكيا يريد المحافظة على «الثوابت والعرف...» ويخشى التطوير ولا يتجرأ على تقديم تصور تنويري فعلي.
منذ قرون دعا الإمام محمد عبده المسلم إلى إعمال العقل قال: «إن تعارض العقل والنقل أخذ بما يدل عليه العقل، ولكل مسلم أن يفهم عن الله وعن كتاب الله، ومن كلام رسوله بدون توسيط أحد من سلف ولا من خلف» ولكن يبدو أنّ موقف العقلنة والتعويل على الذات في تدبر الشأن الديني قد تراجع ليفسح المجال «الحسبة»... لوضع صار فيه المسلم عوّالا على «الشيوخ» «والدعاة» والمتاجرين بالدين، أسير خطاب الأمر والنهي والترهيب، واقعا تحت فتنة الخطاب أو سحره أو ...
إنّ مجتمع استهلاك الإجابات النموذجية وفتاوى التايك أواي take away مجتمع يفتقر إلى رؤية جديدة للمسألة الدينية ...مجتمع فاشل لأنه يهاب الفكر النقدي... مجتمع لا ينتج ولا يبدع بل يعوّل على جهود السلف والوسطاء..