غير أنّ التحديق بملء العين في ما يجري من أحداث تعري هشاشة الدولة وغياب الإرادة السياسية وتكشف عن وجود لوبيات فساد في كل القطاعات حتى تلك التي كنّا نتصور أنّها بمنأى عن الشبهات كالمؤسسات التربوية والتعليمية بمراحلها المختلفة، فضلا عن استشراء العمليات الإرهابية وتورّط عدّة جمعيات وشخصيات في تسفير الشباب ...إلى غير ذلك من الأحداث التي تتواتر بنسق سريع و»درامي» ...كلّ هذا جعل الفئات التي كانت متحمّسة للمشاركة في عملية بناء الجمهورية الجديدة تتوارى وتقرّر العودة إلى «قواعدها» .
لم يعد العزوف مقتصرا على اللامبالاة بالشؤون السياسية للبلاد أو رفض الانخراط في مختلف مكونات المجتمع المدني أو مقاطعة لكلّ وسائل الإعلام المحلية أو اتخاذ قرار عدم المشاركة في العمليات الانتخابية ... بل اتّسع مفهوم العزوف ليتجاوز المجال السياسي إلى المجال المجتمعي مؤديا بذلك إلى «استقالة» من جميع الأدوار التي من شأنها أن تعزز المنظومة القيمية وأن تثبت دعائم المواطنة. فنحن إزاء عزوف عن العمل ، والنقاش، والتفاعل، وإبداء الموقف ، والمناصرة ...هي اللامبالاة التامة والمقاطعة والتنصل من الواجبات .
وبما أنّ المشرفين على استطلاعات الرأي قد واجهوا انتقادات شديدة تتصل بالمقاييس المعتمدة والرهانات الخاصة التي تلتبس بها فإنّها ما عادت قادرة على مدنا بمعطيات دقيقة وذات مصداقية حول نسب العزوف ، وتوزعه جغرافيا و أسبابه و الشرائح العمرية والاجتماعية المتصلة به... فإنّ ظاهرة العزوف المتعدد ستبقى عصية عن الفهم وستكون لها انعكاسات خطيرة على معركة النضال الديمقراطي من أجل بناء تونس الغد.
العزوف المتعدد ذو وشائج بالإرث الثقيل الذي تراكم عبر سنوات طويلة ٬ وله بنيات متشابكة ومتقاطعة على مستوى القيم ،والسلوك ٬ والفعل ٬والتفكير وتصور الحياة وفهم الحقوق والواجبات وتمثل قيم الحرية والمسؤولية والالتزام.... إنّه انعكاس لنظام دكتاتوري خنق المبادرات الفردية وأدان كلّ أشكال المقاومة وصادرها وقمع التفكير الحرّ والمسؤول. أمّا العزوف المتعدد الذي نعاينه اليوم فإنّه مرتبط بالفساد والانتهازية .فكلّما تضاعف عدد السماسرة ٬ والوسطاء الذين يساهمون في إفساد العملية السياسية وتخريب الدولة عبر توظيف النفوذ المالي والسياسي والإعلامي وتزكية الانتهازية وتلبية الأطماع الشخصية الضيقة وترسيخ الامتيازات ارتدّ الناس إلى فضائهم الخاص ‹الآمن› وغادروا الفضاء العام الذي يفترض المشاركة في الشأن العام.
هل يمكن توقع تحسّن في نسبة المشاركة السياسية والمجتمعية في المستقبل القريب والحال أنّ نواب الشعب يرفضون تطبيق القانون ويصرون على الاحتفاظ بامتيازاتهم؟ (العقوبة المادية للمتغيبين)وهل باستطاعة المسؤولين إعادة الثقة في العمل السياسي الفعلي الذي يرقى إلى تطلعات المجتمع، والحال أنّ منهم فئات تؤازر وتتواطأ وتحمي من يضمن لها مصالحها ؟ وهل يمكن إقناع المواطنين بضرورة العمل والكد والتضحية والحال أنّ عددا من الإعلاميين يحترفون ‹الكلام باسم الشعب› والحال أنّهم في النعيم يرفلون؟
ونرجح أنّ كيفية معالجة ‹ملف التصدي للفساد ‹ ستكون الفيصل لرفع كلّ هذا اللبس والحد من سطوة التناقضات كما أنّها ستكون المحرار الذي سيساعدنا على تبيّن مدى عودة الثقة إلى نفوس التونسيين الأحرار الذين صدقوا أنهّ بإمكانهم أن يحققوا التغيير السياسي-الاجتماعي.