ولا تتوقّف التحولات المترتبة عن الاستقطاب الأيديولوجي عند هذا الحدّ فقد لمسناها في سلوك القوم في مختلف الأفضية وكأنهم يعيدون إلى الأذهان ممارسات ألفناها في أجواء الأعراس والاحتفالات تتجلى في سؤال يطرح عند استقبال الضيوف «إنت من دار العروسة ولاّ من دار العروس» .فها نحن في المؤتمرات والاجتماعات العامة نطرح سؤالا بات ضروريا: «منا ولاّ منهم؟» وعلى أساس الإجابة نتموقع ونحدد سلوكنا فنجهر بالقول أو نؤثر الهمز والإشارة بالعين... وهو إجراء وقائيّ حتى لا نصطدم بالخصوم فتكون المعركة وبئس المصير.
ولا تسل عن انعكاسات هذا السلوك التمييزي والمتسم بالحذر وتوجس الشر والخطر من الآخر غير الشبيه على مستوى رسم السياسات وصياغة البرامج والمشاريع الخاصة والعامة والتي تجاوزت الأطر المألوفة لتشمل الجامعة والجامعيين ومراكز البحث «وإنتاج المعرفة».
فكم من مشروع عقد بين ذوي القربى والأصحاب والخلان، وكم من «خبزة ‘قسّمت على صديقات الصبا أو بنات أو أبناء الجهة...تتأمل في قائمة المشاركين في التنسيق بين هذه البرامج فتجد الزوج والزوجة أو الأب والبنت ، ثم الصديق والخل الودود الذي لا يغيب عن طعام فتجده في كلّ مشروع يتطفل على جميع الموائد عدّته في ذلك «العقد’ الذي يجمعه بصاحب او صاحبة المشروع ...وهكذا تصاغ رسم السياسات وإنشاء الجمعيات والمؤسسات والمشاريع بل حتى الماجستارات العلمية والندوات ومخابر البحث وغيرها، والأنكى من كل ذلك أّنّ القوم لا يشعرون بأدنى حرج في الاشتغال وفق منطق القبيلة والغنيمة بل نراهم في مختلف الاجتماعات لا ينفكون عن انتقاد الساسة ونعتهم بألف نعت ونعت ولا ينفكون عن تحليل النصوص موضحين الخرق الحاصل وسوء فهم أسس المواطنة و»تعرية’ الانتهازيين الذين لا يقدرون الشفافية والنزاهة والحوكمة الرشيدة ولا يحترمون القوانين والدستور...
وعندما يغيب معيار الكفاءة يكون المشهد مرعبا منذرا بالخراب .فأنّى لمن مارس الفرز الأيديولوجي والجهوي والإقصاء أن يساهم في تجذير الديمقراطية؟ وأنى لمن اعتبر ذوي القربى والخلان أفضل مؤازر أن يكرس ثقافة المواطنة ؟ وأنى لمن صاغ السياسات والدروس والمؤتمرات لمكافحة الإرهاب على أساس الولاء والصداقة وانتهاز الفرص واقتسام الغنائم بين الأحباب... أن ينجح في ما يصبو إليه وأن يخدم البلاد والعباد؟
إنّ إعادة إنتاج المنظومة القديمة مهمة لا ينهض بها الفاعلون السياسيون فقط ... إنّها ممارسة وسلوك وعقلية نلمسها في كلّ المستويات بدءا بالنخب وصولا إلى عامة الناس ... غير أنّ الفرق جليّ بين من يفعل ذلك عن وعي متسلحا بترسانة من المبررات كصلة الرحم وصحبة الجامعة أو الزنزانة أو الحومة، والمصلحة المشتركة، ونفعني نفعك... متعمدا حجب انتهازيته من خلال «بلاغة الخطاب» وذاك الذي يبرر سلوكه بمبرر وحيد وبلا تحذلق ... «الأقربون أولى بالمعروف» و«الي تعرفو خير من اللي ما تعرفوش».