قانون المالية يكشف الصراع بين البرلمان والحكومة: من يرسم السياسات العمومية في تونس؟

في الجلسات الأخيرة بمجلس نواب الشعب

عاد مشروع قانون المالية ليكشف جوهر الصراع حول من يرسم السياسات العمومية في البلاد ومن يملك قرارها. فالنقاش الذي دار بين النواب وممثلي الحكومة، خاصة وزارة المالية، لم يكن حول تفاصيل الضرائب أو نسب النمو، بل حول حدود السلطة بين الحكومة ومجلس النواب في ظل متغيرات جديدة برزت على الساحة توحي بأن ميزان القوى بينهما في طور المراجعة.

فالحكومة التي كشفت رئيستها في أول جلسة لعرض بيان الحكومة ومشروع قانون ماليتها وميزانيتها لسنة 2026، كانت صريحة في عرض تصورها لطبيعة العلاقة التي اختزلتها في برلمان يدعم الوظيفة التنفيذية باعتبارها مركز القرار الوحيد في البلاد، أي أن الحكومة راهنت على أن يلعب البرلمان دور الممر الآمن لمشروع قانونها من منطلق دوره كداعم ومساند للسلطة.

وهو ما مثل الرسالة السياسية المركزية للحكومة منذ ذلك الحين، إذ كان جليًا في خطاب الحكومة ومن مثلها في جلسات النقاش أن القرار يُصاغ من قبل الوظيفة التنفيذية، لا فقط لأن الأمر متعلق بمسألة تقنية مالية، بل لأن التصور الجديد للدولة وفق دستور 2022 يقدّم الوظيفة التنفيذية باعتبارها الجهة الوحيدة القادرة على التقدير والحسم، وهو ما يجعل من البرلمان أو الوظيفة التشريعية في موقع المساند لا المبادر.

في تلك الجلسات المخصصة لمناقشة مهمات الوزارات والمؤسسات وفق مشروع قانون المالية، اتضحت معالم هذا التوجه، لا فقط بالخطاب بل بكون الحكومة قدمت نصًا جاهزًا متكاملاً في خطوطه الكبرى وتفاصيله الدقيقة. نص تضمن زيادات في الأجور وجرايات التقاعد وتخفيفات جبائية لفئات متعددة، إضافة إلى إجراءات تخص الاقتصاد ودعم التشغيل، دون أن تُفعّل مبدأ التشاور بينها وبين البرلمان كما نص عليه الدستور، إذ إن الحكومة قدمت نصها دون مشاورات مع النواب تُصاغ خلالها الخيارات. لتتقدم في نهاية الأمر بنص فصوله مغلقة لا تسمح بالكثير من أبواب التعديل.

وحجة الحكومة هنا أنها، وعبر مشروع قانونها، تعمل على إدارة الضغط الاجتماعي المتراكم ومعالجة السياق الاقتصادي الصعب، من تضخم وارتفاع في الأسعار، وتراجع القدرة الشرائية، وتململ طبقات واسعة من المتقاعدين والموظفين وأصحاب الدخل المحدود. في هذا المناخ، اختارت الوظيفة التنفيذية تحركات اعتبرت أن أثرها ملموس: زيادات في مداخيل الفئات الأضعف، إعفاءات محدودة لبعض الأسر، وتسهيلات لقطاعات مستهدفة.

في المقابل، بدا البرلمان في موقع رد الفعل. عدد من النواب طرحوا أسئلة حول مصادر تمويل هذه الزيادات ومدى قدرة المالية العمومية على تحمل العبء في المدى المتوسط. آخرون حذروا من مخاطر الديون أو من آثار بعض الإجراءات على القطاعات والفئات الأضعف، كما طُرحت مخاوف بشأن الاعتماد على إجراءات ظرفية دون إصلاحات هيكلية في نطاق الاستثمار أو البيئة الاقتصادية. غير أن هذه الأسئلة لم تتحول إلى أدوات ضغط. بقيت تدخلات متفرقة مرتبطة باهتمامات قطاعية أو محلية، ولم تتحول إلى مشروع سياسي أو رؤية بديلة متكاملة.

هذا المشهد الذي ميز النقاشات الأولى طيلة النصف الأول من شهر نوفمبر المنقضي، عكس تحوّلًا في المزاج العام صلب البرلمان بغرفتيه، وخاصة مجلس نواب الشعب الذي استشعر أن المبادرة التشريعية والسياسية سُلبت منه وأنه أصبح عمليًا جزءًا من أدوات السلطة التنفيذية في إدارة شؤون الحكم لا شريكًا ومساهمًا في العملية، حيث تم إقصاؤه من رسم السياسات، خاصة تلك المتعلقة بالمالية العمومية.

ما استخلصه نواب المجلس بعد مرور أكثر من نصف عهدتهم هو أنهم كانوا غائبين عن صناعة القرار العام، وأن قاعة مجلسهم تحولت إلى فضاء نقاش محدود التأثير، يمارس رقابة شكلية أكثر مما يحدد توجهات أو يعيد صياغتها. وهو ما دفع بجزء منهم إلى الانتفاضة بهدف استعادة زمام الأمور، وفي هذا السياق أصبحت مناقشات مشروع قانون المالية، الذي يفترض أنه يعكس معادلة بين الموارد والنفقات، مناقشات سياسية بامتياز، حتى في ظل غياب كتلة سياسية منظمة داخل البرلمان، وتشتت المواقف، وتحوّل النقاش في بعض الأوقات إلى تجميع لملاحظات فردية بدل موقف مؤسسي.

لكن رغم ذلك، برزت ملامح تحدي البرلمان للحكومة عبر تعديلاته على قانون المالية، سواء بإسقاط فصول أو إضافة أخرى، قابلتها الحكومة ممثلة بوزارة المالية بالإشارة إلى أنها قد لا تلتزم ببعضها إن تمت المصادقة عليها، في إشارة إلى فصل إضافي يمنح تونسيين، بعد استيفاء شروط، امتياز استيراد سيارة من الخارج.

ما تعلنه الوزيرة هنا هو أن الحكومة التي تمثل الوظيفة التنفيذية لا تقبل بأن يغير المجلس سياساتها أو يعدلها، وهو ما يعد بمثابة قولها إنها لا تقبل المنافسة، وهو ما ينتقل بالنقاش الذي لم يعد يتعلق فقط بقانون المالية إلى نقاش عن طبيعة الحكم في تونس اليوم. فالنموذج الذي يتشكل يقوم على مركزية القرار بيد الوظيفة التنفيذية، مقابل برلمان محدود التأثير يراد له أن يضفي الشرعية على السياسات العمومية دون أن يساهم في صياغتها، وهو ما انتفض ضده جزء من المجلس اليوم، وبهذا المعنى فإن قانون المالية أصبح وثيقة سياسة محل صراع بين طرفين، يريد كل منهما أن يعيد تعريف مفهوم السلطة.

خلاصة الصورة أن تونس باتت أمام توازن جديد. الحكومة تسلك طريق المبادرة المنفردة، وترمي إلى بناء سردية مفادها أن الدولة تتولى الشأن الاجتماعي مباشرة دون وسطاء. البرلمان يطالب بدور، لكنه لا يزال يبحث عن أدوات لفرضه. الجلسات الأخيرة لم تغيّر كليًا في المشهد، فتفاعل الحكومة أكد هوية من يمسك بخيوط اللعبة، ولكن كيفية إدارة البرلمان لخلافته اليوم والخطاب الجديد الصادر عن عدد من نوابه يعلنان أن هناك شيئًا تغير وأن المواجهة قد تصبح حتمية بينهما

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115