لماذا يغضب الصحفيون ولأجل مَن يرفعون أصواتهم ؟

غضب الصحفيين يوم أمس وتجمعوا أمام قصر الحكومة بالقصبة

في تحرك يعكس، في جوهره، قلقًا عميقًا مما بات عليه وضع الصحافة والإعلام في الدولة التونسية التي باتت فيها الفضاءات العمومية تنكمش أمام منطق المركز الواحد والصوت الواحد الذي يتحكم في السرد وفي المعلومات التي يتلقّاها التونسيون عبر رواية رسمية لا تتم مساءلتها والتدقيق في ما تتضمنه من معطيات وخطاب.

لحظة قد تكون مفصلية في المشهد التونسي لا فقط الإعلامي، فيوم أمس انتفض الصحفيون من أجل مهنتهم ومن أجل حق التونسيين في المعلومة، فالصحفيون اجتمعوا في ساحة القصبة ليس من أجل امتيازات قطاعية أو مصالح ضيقة، بل احتجاجًا على المس بحرية التعبير وحق المواطنين في المعلومة.

وهو ما تعبر عنه مطالبهم التي قد يكون الانطباع الأول عنها أنها مهنية تقنية، مع إغفال جوهرها، فمطالبهم كانت الإسراع في تجديد البطاقة المهنية ورفع القيود وتجديد تراخيص الصحافة الدولية، والانطلاق الفعلي في إصلاح الإعلام العمومي بمقاربة تشاركية، وختامًا وضع حدّ لتتبع الصحفيين والإعلاميين على معنى فصول المرسوم 54 لما يمثله من تضييق قانوني هو في النهاية مساس بحق كل تونسي في معرفة ما يجري في بلاده.

البطاقة المهنية ليست مجرد وثيقة تثبت هوية الصحفي، إنما هي أداة تمكّنه من القيام بعمله بحرية، والوصول إلى المعلومة الدقيقة. عندما تُؤخّر اللجنة المسؤولة عن إصدار بطاقات 2025 و2026 عملها، تعقّد قدرة المئات من الصحفيين على ممارسة مهنتهم، وتحدّ من قدرتهم على الولوج إلى المعطيات والمعلومات الرسمية، مما من شأنه أن يحرم المواطنين من متابعة الأخبار والتحليلات التي يحتاجونها لفهم الواقع، وفق معالجات متنوعة لا فقط المعالجة الحكومية والرسمية التي قد تقع في الدعاية والتسويق السياسي، وهو ما يحول دون قدرة المواطنين على الوصول إلى الصورة الكاملة للأحداث. لذلك، المطالبة بإصدار البطاقة ليست مطلبًا شخصيًا، بل دفاعًا عن حق الجمهور في المعرفة.

حق يدافع عنه الصحفيون أيضًا حينما يتمسكون بوضع حد للتضييقات التي تمارس على الصحافة الدولية، إذ منذ سبتمبر الماضي، جمّدت الحكومة تجديد تراخيص المراسلين الأجانب، دون مبرر قانوني واضح. هذه الإجراءات تؤثر بشكل مباشر على قدرة المواطن التونسي على تنويع مصادر أخباره المتعلقة بتونس، والاطلاع على قراءات وتحليلات مغايرة لما هو متداول داخليًا، وهو ما يمنح التونسيين بشكل غير مباشر فرصة للمقارنة ومساءلة إعلامهم.

أما الإعلام العمومي، وإصلاحه الذي يمثل مطلبًا آخر للصحفيين، فإن التحرك الذي دعت إليه نقابة الصحفيين أمس هو من أجل دفع ملف الإصلاح إلى الواجهة بعد أن جمّدت مسارات الإصلاح وعُطلت كل محاولاته السابقة، وخاصة الإصلاحات القانونية التي تمنحه الاستقلالية المالية والإدارية بهدف ضمان حد أدنى من الاستقلالية عن السلطة ليتمكن من لعب دوره في مساءلتها وعدم الوقوع في دور الإعلام الدعائي الحكومي.

فحينما تهيمن السلطة على الإعلام العمومي بشكل مباشر أو غير مباشر، يتحول إلى أداة دعائية يختزل دوره في قول الرواية التي تريدها السلطة وتضخيم رسالتها، وليس البحث عن تمكين المواطنين من المعلومات اللازمة ليكونوا على بينة مما يحدث حولهم. لذلك، المطالبة بإصلاح الإعلام العمومي لا تخص الصحفيين وحدهم، بل هي من أجل حق المواطن في المعلومة الموضوعية والمتوازنة التي يقدمها له إعلام عمومي ممول بالكامل من ضرائبه.

والأمر لا يختلف في ما يتعلق بوقف الملاحقات القضائية وفق المرسوم 54 وتطبيق المرسوم 115 في قضايا التعبير والنشر التي يُلاحق فيها الصحفيون أو الإعلاميون، وهذا ليس مطلبًا لاستثناء قطاع من الملاحقة القانونية، بل هو طلب بتوفير ضمانات قانونية لممارسة المهنة، فالملاحقات بمقتضى مرسوم 54 لا تهدد الصحفيين أو تضيق عليهم فحسب، بل تهدد حرية التعبير والنشر، وتنقل بهما إلى التجريم الذي قد يؤدي في النهاية إلى إسكات صوت المجتمع.

كل هذه المطالب هي ما تجعل من غضب الصحفيين اليوم رسالة واضحة، وهي أن المطالبة بحرية الصحافة والتعبير ليست مطلبًا نقابيًا، بل حقًا أساسيًا للمواطن. كل مطلب تقدمه النقابة الوطنية للصحفيين مرتبط مباشرة بالحق العام، لا بالحق الشخصي. المواطن الذي يريد أن يعرف، ويشارك في النقاش العمومي، ويسائل ويحاسب المسؤولين، يحتاج إلى صحافة مستقلة وفعالة. والتاريخ يعلمنا أن حرية الصحافة هي شرط أساسي للديمقراطية. كلما كانت الصحافة مستقلة، كلما كانت الدولة شفافة، وكلما زادت ثقة المواطن في مؤسساتها.

غضب الصحفيين اليوم ليس احتجاجًا قطاعيًا، بل هو صرخة من أجل مستقبل البلاد، من أجل جمهور يملك الحق في المعرفة، ويستطيع مساءلة السلطة، ويعيش في دولة لا تقيّد المعلومة ولا تخنق الحقيقة.

في النهاية، ما يطالب به الصحفيون اليوم هو ما يحتاجه كل تونسي: صحافة حرة وموضوعية، تخدم حق المواطن في أن يعرف كل ما يحدث في بلده بلا تحريف أو توجيه أو تلاعب

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115